ستظل الآية الناطقة بدلالتها ومجال استدلالها(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض..) بما تحويه من مكنونات إنسانية مكنوزة وثرية ترد كل تعدٍ بائسٍ باسم الدين، وخبث يمارس الاستقواء بدعوى النقص المزعوم، فالنظم الأصولية الثابتة مهما نكصت عنها النظم الشارحة ستظل التمثل الحقيقي لإسلام النص.. إسلام الكرامة الإنسانية.. والمساواة العادلة هل الأمور التي تقض مضاجع الآخرين أكثر نبلاً ؟!! سؤال ستتوصل لإجابته إذا ما فكرت بحرية في انسيابية الإنسانية الحقوقية المشمولة بقيم الحرية والعدالة والمساواة، وهي تهب للجميع الحق بحياة أخلاقية راقية تبعث على البهجة والرفاه، وتوفر جواً إنسانياً متسامحاً يساهم بالإنتاج والابتكار والإبداع.. لن أطيل لأربطك بالتفكير وتأمل الواقع، سأضع مثالاً بسيطاً يكشف عن اختلاف تداعي الحقوق والأنسنة بين المجتمعات، ويسجل نقاط المفارقة أمام أهل العقول لتدرك بتأمل العللية ما تشهده من نتائج واقعية.. اخترعت اليابان جهازاً شبيهاً بأجهزة الصراف الآلي يجدد جوازك في ثلاث دقائق؛ تقف أمامه وتدخل بطاقتك ليتعرف عليك، يليها إدخال جوازك القديم ليتم إلغاء استخدامه، ثم تضع إبهامك لأخذ بصمتك ويلتقط صورة لوجهك"هويتك" ثم يخرج لك جوازك الجديد مغلفاً بكل سهولة ويسر.. دعونا نتخيل؛ لو استوردنا- ولن أقول اخترعنا- هذا الجهاز ووزعناه في كل مكان كأجهزة الصراف، وخرجت إحدى الدرر المكنونة إليه لتجدد جوازها، تخيل صدمة الجهاز لمتطلبات الخصوصية، أو: تخيل لو تمت برمجة الخصوصية عليه، عندها سيسأل: وأين ولي أمرك؟!، هل تظنين نفسك في اليابان أو إحدى دول الكفر؟!، أما البصمة فسيحتار لمن يطلبها؛ أيطلبها لصاحب الجواز أم صاحب الموافقة على الجواز؟!!، وهل سيسجل الموافقة لسفرة واحدة فتضطر "الدرة" أن تخرج لكل سفرة برفقة ولي أمرها ليبصم بموافقته لكل سفرة لتتمكن من الحركة والتنقل.. بالتأكيد سيكون ذلك الجهاز مدعاة استشكال ثقافي لا أول لها ولا آخر..، وستتورط الجوازات لأنها لن تستطيع أن تجعل الجهاز في خدمة الجميع، بينما نصف المجتمع مربوط بموافقة نصفه الآخر على استخراج أوراقه الثبوتية وحرية تنقله، هنا تبرز الخصوصية لتقول: ليس كل امرأة درة مصونة وجوهرة مكنونة وألماسة مخبوءة، هنا نساء الخدور الناقصات عقلاً وديناً..!!وليذهب الجهاز مع أهله للجحيم.. من مركزية ذكورية اللغة تتفرع الانتهاكات اللا إنسانية، وتترى لتعطل انسيابية القوانين في مساراتها الطبيعية، كالخدمات الإلكترونية التي تقدمها"أبشر" ساعية ما أمكنها لخدمة الرجل، والتخفيف من تبعاته المكتسبة بسبب نظام متعجرف يهيمن بولايات شمولية على النوع الأنثوي بأكمله؛ من أم وجدة وزوجة وأخت وابنة وووووووووو.. خدمات "أبشر" لايمكن انتشالها من وضع التأزم الأخلاقي والإنساني لدينا تجاه المرأة؛ باعتبارها مجرد تعبير الكتروني حديث لامتداد ذكوري مجتمعي سائد وموروث، ومصيبة مستمكنة في بنية ومفاهيم الفكر المجتمعي، لذلك صممت الخدمة من عنوانها "أبشر" بلغتها الذكورية الطاغية كإرسال واستقبال لخدمة ذكورٍ في ذكور، وتأتي المرأة كتابع ملحق بمن هم في مشمول حيازة الرجل؛ من أطفال أو مجانين أو معتوهين خاضعين لرغبة وقرار الولي الذكر.. بحكم عدم الاعتبار بسن الرشد للمرأة السليمة من العته والجنون.. في تصريح حديث للجوازات"وعد اللواء سليمان اليحيى مدير عام الجوازات بمفاجآت سارة قريباً للنساء السعوديات تتمثل في وضع مسارات خاصة لهن في المطارات لإنهاء إجراءات سفرهن من خلال كوادر نسائية.. كاشفاً في رده على سؤال ل "الاقتصادية" عن عدم وجود أي نوايا لدى المديرية لإلغاء تصريح السفر الخاص بالنساء، مفيداً بأنه تم حديثاً استثناء الطالبات المبتعثات منه"... يعلم مدير الجوازات أن استثناء المبتعثات استثناء ملفق، فولي الأمر مجبرٌ أصلاً من وزارة التعليم العالي بمرافقة مولاته؛ كأهم شرط لقبول ابتعاث الطالبة، فكيف تُطلب موافقته على سفرها وهو برفقتها رغم أنفه وأنفها؟!! ثم على أي أساس يستقيم استثناء المبتعثات من هذا القيد الذكوري بينما تحرم الراشدة منه، يأتي في قمة الاستنكار جميع الراشدات وعلى رأسهن الأمهات؟!! أما حكاية المسارات الخاصة؛ ففي كل مطارات العالم تخدم ويخدم موظفا الجوازات الجميع بدون تقسيم المجتمع لخدمة خاصة للرجال وأخرى للنساء، لكنها جريمة الاختلاط العبثية التي ابتدعها الدعاة، ولازال المسؤولون يستدعون حالات تلك الخدعة كمفاجآت سارة ؟!!! وأي بُشرى في تشويه العلاقات بهذا الفصل المتخلف الذي يرعب به الجنسين من بعضهما؟!!! تكملة الخبر تقول: "وأشار اليحيى إلى أن المواطنين يحبون انتقاد كل صغيرة وكبيرة، كونهم لا يعلمون حجم العمل الذي تقدمه المديرية لرفع أدائها بالتوسع في الخدمات الإلكترونية والتسهيلات التي قدمتها للمواطنين" لاشك أن جودة إيصال الخدمات لها متطلبات وعي؛ فإما أن تكون انسيابية المسالك، أو معاقة كما لدينا مع المرأة.. يدرك"اليحي" أن رد أمور الإنسانية إلى نصابها سيزيح كثيراً من الحمول الثقيلة بسبب الخصوصية اللا إنسانية التي تعتبر المرأة قاصراً عن اتخاذ قراراتها بنفسها وعبئاً على غيرها، فربط معاملات النساء الخاصة بالرجال يساهم بتعقد الخدمات، إذاً؛ أنتم "المسؤولون" بتشريع القوانين من يعقد العلاقات فتتعقد وتتضخم المعاملات، انهضوا- وبإنسانية - بفردانية الخدمات تنحلّ غالب المشكلات.. تناولت في مقالات سابقة منها مقال "الولاية المبتذلة بين النص والتاريخ" بعض التصريحات العجائبية للمديرية العامة للجوازات، وسأعيد بعضها من باب المقارنة بينها كيما يتضح مقدار التناقض والتأزم في علاقة المؤسسات الحكومية بالمرأة.. ففي تصريح:"العمل على تحديد سن لسفر الكبيرات" للمتحدث الرسمي للجوازات المقدم أحمد اللحيدان" أكد فيه أن هناك تنظيماً حالياً يسمح لمن تُقدَّر ظروفها الخاصة من كبيرات السن من السفر دون تصريح... ونعمل على تحديد سن معينة لسفر كبيرات السن" وبغض النظر عن انعدام تنظيم يعتمد مصطلح "كبيرات السن" إلا أنه يضرب تصريح مدير الجوازات"اليحيى" الذي ينفي نفياً قاطعاً النية - والعياذ بالله - في رفع الوصاية على سفر الراشدات حتى لو وقع تحت بدعة بمسمى"كبيرات السن"! ثم يأتي التطوير المزعوم لينقل الولاية من ورقة صفراء إلى استخدام تقني يبشر الذكور بخدمات صممت لمصلحتهم.. ويبقى التطوير تطوير آلة؛ أما تطور الوعي فيراوح مكانه في الإساءة المتعمدة لكرامة وحرية المرأة الموهوبة من خالقها، المهدرة من ذكور الأمة السعودية.. وتتنوع خدمات أبشر التتبعية؛ لتبعث رسائل نصية للرجال عن تحركات المرأة من مطار السعودية حتى رجوعها، ثم أعلن عن تطويرها لتكون اختيارية لمن يريد من أولياء المرأة استمرار التجسس والتتبع.. كأبشع نظام تقني مخل أخلاقياً بالعلاقات الإنسانية.. بتتبع تلك التصريحات نشهد تناقضاً غير مستنكر يحمل في شبهاته فرض النظرة الانتقاصية الدونية للمرأة، لقاء المركزية السلطوية الذكورية المهيمنة.. ما يعكس التشكل المعرفي الحقوقي الممنهج لدينا كتشكل بدائي عرفي، لا يخضع لراهنية الزمان ولا وعي المرحلة ولا متطلبات العصر.. فضلاً عن استيعاب الأنسنة بمفهومها الأسمى.. ذكرت في المقال المشار إليه منشأ وتسلسل اضطهاد المرأة وتهميشها الناشئ بدافع العوامل الاجتماعية والطبقية والأعراف والقيم الذكورية التي تنتج عن مصالح الرجل في الهيمنة والاستحواذ بالمرأة وإخضاعها لمشيئته، ليتولد عنه الاضطهاد الأبوي الذكوري البطريركي الذي يظهر في سيطرة الذكر على الأنثى في العائلة والمجتمع والسلطة، لتكتمل الصورة بالاضطهاد القانوني الذي يسلم المرأة للضعة والهوان في حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. لكن؛ إن ابتُغي الإصلاح، فلا يصح البدء من بداية الاعتلال الحقوقي، فالزمنية الإصلاحية لاتحتمل تقويم عبثية البدايات، فابتدار عملية الإصلاح يأتي ارتدادياً من حيث انتهى العبث؛ أي من الوضعية القانونية؛ فتستبدل قوانين اضطهاد المرأة بأخرى تعيد لها حق أهليتها التامة عن نفسها، وبالتالي تتواكب سلاسة النقض المعرفي التراكمي للاضطهاد بسلسلة التغيير المنفتح على القانون الإنساني النبيل؛ ويبرز في الرحلة الإصلاحية الحقوقية الحاجة الماسة لاعتبار قيمة تحديد سن الرشد المؤسس في كل القوانين والشرائع والتنظيمات الحقوقية على مستوى المساواة التامة بين الرجل والمرأة.. تاريخياً؛ يبرز تكريس اعتبار دونية المرأة كنتيجة حتمية لفكرة الارتقاء الذكوري المعتبرة اجتماعياً، بفعل رواة الأحاديث وشروح الفقهاء والدعاة فيما يشبه خيانة الفروع للأصول؛ إذ حمل أولئك النصوصَ الشارحة على النصوص المؤسسة لتتولى التأصيل لمنظومة الأعراف والتصورات المتصلة بالتراتب الجنسي جسدياً ومعنوياً وحقوقياً. والتراتب الديني التشريعي والسياسي والاقتصادي.. اللافت؛ أن نظرة المذكر للمؤنث المغيّب والمحاصر، المطعونة بالفرعية والنقصان والدونية توسعت لتطال المؤنث إلى نفسه في تبنٍّ مدوٍّ لتراتبية عميمة استدرجته إلى استيعاب السيطرة المتجلي في مظاهر التسليم والخضوع والإذعان حتى للظلم، لتتقبله على أنه فضيلة متوجبة على المرأة حيال الرجل.. لكن المرأة الحرة يتحتم عليها أن تحرر عقلها من الاستبداد المعتم لرؤيتها لنفسها، وتكسر المرآة التي ترى فيها نفسها من خلال سواها، سواء أكان هذا ال"سوى" رجلاً أم قانوناً أم تنظيماً أم تشريعاً.. فالواقع الإنساني اللائق يتوفر في الحضور المتكافئ وحق الندية والقرار والمبادرة والتعبير، بما يزحزح الوضعيات الدهرية للتراتب والتسلط والتملك الذكوري، ويهدم عقيدة قصور المؤنث ونقصانه وسلبيته واعوجاجه.. لذلك ستظل الآية الناطقة بدلالتها ومجال استدلالها(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض..) بما تحويه من مكنونات إنسانية مكنوزة وثرية ترد كل تعدٍ بائسٍ باسم الدين، وخبث يمارس الاستقواء بدعوى النقص المزعوم، فالنظم الأصولية الثابتة مهما نكصت عنها النظم الشارحة ستظل التمثل الحقيقي لإسلام النص.. إسلام الكرامة الإنسانية.. والمساواة العادلة..