أضحت ظاهرة "التسوّل" وجعاً وهماً في مدننا المترامية الأطراف وفي ضواحيها وقُراها وهِجرها، بل إنها باتت الداء الذي أمعن في إنهاك جسد المجتمع بشكل يحتاج معه إلى حل جذري وحاسم، لا مسكنّات لا تلبث أن يزول أثرها سريعاً ليعود الجسد إلى ذات الوجع وأعراضه المختلفة، التي ينعكس أثرها على مجتمعنا اقتصادياً وأخلاقياً وسلكوكياً وغيرها من الآثار المتعددة. ولأننا في دولة تحظى بقفزات تنموية لافتة تدعو إلى الفخر والاعتزاز، سيما إذا أيقنا أن حكومتنا الرشيدة تنفق بسخاء على مشروعات عملاقة تسعى لأن تضع لنا موقعنا المفترض بين الأمم المتقدمة والمتحضرة، لكن في ظل استمرار مثل هذه الظواهر السلبية ك"التسول"؛ الداء الأكثر بشاعة في مجتمعنا لا يمكن أن نظهر بالشكل الذي نطمح إليه جميعاً. تتكرّر النداءات وتعلو الصرخات محذرة من المتسولين على مدار العام في وسائل الإعلام المختلفة، ولا تجد صداها المتوقع أو الحلول الناجعة، مما يدلّ على أننا لم نتقدّم ولم نحسن إدارة أزمة أو إشكالية كهذه الظاهرة المؤرقة. في كل عام نشهد تحرّكاً وضجيجاً لافتاً حول الحملات التي تهدف إلى القضاء على التخلف والمتسولين اللذين يعدان نتاجاً لبعضهما البعض، إلاّ أن هذا الحراك والحماس لا يلبث أن يخبو بريقه لتعاود هذه الجموع البشرية تحركها المنظم في الطرقات وعند الإشارات وفي القرى والهجر، بل حتى المساجد لا تخلو من ولوج هذه الفئة لباحاتها من الأطفال والنساء وغيرهم ممن يستغلون مواسم الحج والعمرة ودخول شهر الخير رمضان لممارسة دجلهم واختلاقهم قصصاً يستدرون بها عطف محبي الخير من مرتادي المساجد، خاصةً الكبرى التي تقام فيها صلاة الجمعة والأعياد. عدم اكتراث وتم رصد حالات عديدة من أنواع التسول التي تمارس هذا العمل المزعج بكل جرأة وعدم اكتراث، وبلا وجل أو خوف من جهات رقابية أو غيرها تمنعهم من ممارسة هذا العمل الذي يشوّه طرقاتنا وأحياءنا ومراكزنا التجارية، فضلاً عن انضواء العديد من هذه الجماعات تحت ستار عصابات مستترة تتفنّن في ابتكار وابتداع طرق للتسول لا تخطر على بال أحد، فعند إحدى الإشارات تقف امرأة لا يعرف جنسيتها متنقلة بين السيارات تطرق أبواب وزجاج السيارات العابرة تاركة طفلها الرضيع تحت لهيب شمس لا يستر جسمه الغض سوى "قماش" خفيف لا يقي من حرّ وهجير مدينة ذات حرارة مرتفعة كالرياض، غير مبالية بالطفل ولا بخطورة تعريضه لهكذا أشعة ملتهبة، لتجني أكبر قدر من المال من العابرين، فيما تقبع امرأة أخرى بالقرب من أحد المخارج داخل الطرق الرئيسة في الرياض تصطاد العابرين بالتلويح بيدها مستغلةً سماحة وكرم العابرين من المواطنين الذين يتوقون لعمل الخير ويستهويهم العطاء والبذل لمن يعتقدون أنهم مستحقّون. أين الخلل؟ هذه المناظر المتكررة التي تصفعنا يومياً في غدوّنا ورواحنا وبشكل مقزز يضعنا في مواجهة مع أنفسنا من جهة وطرق تعاملنا مع هذه الحالات ومع المسؤولين والجهات ذات العلاقة بمعالجة مثل هذه الظاهرة، ويُبرِز أمامنا تساؤل مقلق: إلى متى نظل مجبورين لرؤية هذه الجموع البشرية في طرقاتنا وعند الصرافات والبنوك وأماكن العبادة والمجمعات التجارية؟، كما ينبثق سؤال لا يقل أهمية وهو: هل جميع من يمارس هذا العمل هم من المخالفين للنظام أم أن هناك منهم مواطنون ومواطنات؟، وإن كانت الإجابة بنعم، لمِ يلجؤون إلى هذا العمل في ظل وجود وزارة الشؤون الاجتماعية والضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية وغيرها من روافد العون والمساعدة في بلادنا التي يمتد خيرها وعونها لكل أصقاع العالم؟، هل عجزت هذه الجهات عن احتوائهم؟، أين مكمن الخلل في هذا السلوك الذي لا يليق بوطن كوطننا الذي يحدب ويتملس احتياجات دول الجوار والعالم الاسلامي الكبير؟، بل إنه يمتد ليشمل لكل شركائنا في الإنسانية. تحرك مطلوب وتبقى التساؤلات مستمرة ولا إجابة شافية، في ظل حيرة منّا كإعلاميين وكذلك المواطنين الذين لا يعجبهم هذا التشوّه الذي يطال وجه وبريق بلادنا الفتية، والتي تشرئب إليها أنظار كل العالم كدولة هي أنموذج أو هكذا يفترض من حيث التحضر والكفاف للمواطنين بعيداً عن ذل الاحتياج والفاقة، التي تلجئ هذه الفئة من المتسولين إلى تعكير صفو المارة والعابرين والقابعين في منازلهم وداخل المساجد وفي غيرها. ما يجب التنويه إليه هو أن الحلول التي تم اتباعها على مدى سنوات مضت غير مجدية، وبات التحرك المدروس والاستراتيجي لاحتواء هذه الظاهرة أمرا واجبا، فلم يعد يقنع الإعلام أو حتى المواطن العادي هذا التعامل المتراخي واللامجدي والاكتفاء بحملات موسمية في وقت محدد، بل يجب أن ينزل المسؤول ويقف بأم عينيه على معالجة الظاهرة ميدانياً، ويرى أي مناظر تشوّه جهود ونفقات الدولة على مشروعات عملاقة، بسبب تكدّس فئات من المتسولين ينطلقون فرادى وجماعات يومياً مع انبلاج خيوط الفجر حتى ساعات متأخرة من النهار والليل. سلوك إجرام وتحدث "د.صالح بن محمد الخثلان" - نائب رئيس جمعية حقوق الإنسان والمتحدث الرسمي-، قائلاً: إن أكثر هؤلاء الأطفال الذين يجوبون الشوارع للتسول وعند الإشارات غالبيتهم لو بحثنا سنجد أنهم ينضوون تحت أشبه ما يسمى بالتنظيم، حيث يفدون من إحدى الدول، ولا شك أن وزارة الداخلية بحكم اختصاصها تبذل جهوداً كبيرة في القبض عليهم، لكنهم للأسف يتمكنون من العودة، حيث يستطيعون أن يجدوا منفذاً وطرقاً للدخول من جديد، مضيفاً أننا بحاجة للتنسيق مع تلك الدول لمعالجة هذه المشكلة، سيما وأنهم يزدادون في مواسم رمضان سواء في مدينة الرياض أو بقية مدن المملكة والمشاعر المقدسة، مشيراً إلى مجموعة أخرى من المتسولين الذين وصف سلوكهم بالجريمة وليس التسول فقط، وهم من يعمدون إلى استغلال الأطفال وجلبهم إلى تلك المواقع، وفي بعض الأحيان يكون هؤلاء الأطفال مختطفين من أهاليهم وهي جريمة لاشك أنه يجب معالجتها بشكل أمني صرف، فهي ليست مسألة فقر فقط. إعادة تقييم وأوضح "د.الخثلان" أن هناك جانبا آخر من القضية، وهو ما يتعلق بالأسر الفقيرة التي تعيش ظروفاً صعبة، والتي تحظى ببرنامج من وزارة الشؤون الاجتماعية عبر الضمان الاجتماعي، لكن هذه المساعدات بحاجة إلى إعادة تقييم، حيث نادى به أكثر من مرة، مضيفاً أن الوضع أصبح يحتاج إلى توسعة مظلة الضمان الاجتماعي في ظل الارتفاع الذي شهدته السنوات الأخيرة في المعيشة وغلاء الأسعار في وقت الناس المحتاجة باتوا أكثر عدداً ولا يمكن شمولهم بالمعايير السابقة في سياسة النظام للضمان الاجتماعي، لافتاً إلى أن وزارة الشؤون الاجتماعية تصرف أحياناً مساعدات مقطوعة لكن هذه لا تكفي حقيقة، داعياً إلى ضرورة إعادة تقييم سياسة الضمان الاجتماعي بحيث تستفيد بشكل أفضل الفئات الجديدة التي ظهرت وثبت حاجتها للمساعدة. قطاع خاص وأكد "د.الخثلان" على أن جمعيات البر الخيرية في جميع أنحاء المملكة تعاني من ضعف وبحاجة إلى تنسيق، فبعض فروعها يكون لديها فائض مثلاً فيما البعض يعاني من نقص، فيفترض أن تكون هناك شبكة تحت مظلة رسمية تشرف على جمعيات البر، بحيث تغطي جميع المناطق التي بها حاجة حقيقية من أسر سعودية، مُشدداً على أهمية دور القطاع الخاص ورجال الأعمال بزكواتهم لدعم هذه الجمعيات التي تؤدي دوراً مهماً لكنها تفتقد للموارد، موضحاً أن كثيراً من المتسولين أو من يبحثون عمن يساعدهم هم أساساً من أُسر رب أسرتها مسجون، فهؤلاء حين يفقدون من يرعاهم يضطرون إلى النزول للشارع، مبيناً أنه لو وجدت الآليات المتكاملة لربما عولجت القضية. وعن دور الجمعية تجاه هذه الحالات، قال: إنه يتم إحالتها الى وزارة الشؤون الاجتماعية ونجد منها تعاوناً واستجابة، لكن نحن ننظر على المدى البعيد، إذ يفترض تقييم سياسة الضمان الاجتماعي لتشمل هذه الفئات الجديدة التي ظهر احتياجها بعد التغير في الحياة الاجتماعية وما صاحبه من غلاء واحتياج أكبر للصرف. طفل يتسوّل من أحد العابرين حمل الأطفال في الأجواء الحارة لاستدرار عطف المارة سيدة تنتظر توقف الإشارة لتبدأ مهمة النصب والاحتيال أنهت جولتها ويبدو أنها عائدة إلى مقر توزيع التركة تقف أمام السيارة وتنتظر مبلغاً من المال متسولات يفترشن الرصيف دون خوف من العقاب رجل يهم بإعطاء النقود إلى متسولة