الثالث من آذار مارس، تاريخ جديد في مسيرة العلاقات الروسية الأوكرانية، الباردة أو المتقلبة، إن لم نقل المتوترة. شركة الغاز الروسية العملاقة "غازبروم" تقرر خفض صادراتها إلى أوكرانيا بنسبة الثلث اعتباراً من التاريخ المذكور. الأوكرانيون لم يسددوا كامل فواتيرهم المستحقة، أو أنهم أرادوا رفع رسم المرور على الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا عبر أراضيهم، أو أن منسوب الغاز القادم من آسيا الوسطى إلى روسيا قد تراجع على نحو مفاجئ.. أو ثمة أمر آخر قد حدث. النتيجة واحدة، أزمة جديدة بين كييف وموسكو، وضمناً بين هذه الأخيرة وأوروبا. ماذا يقول الطرفان عن نزاعهم الجديد أو المستجد؟ قالت "غازبروم" إن قرارها تخفيض إمدادات الغاز لأوكرانيا بنسبة 25في المائة، اعتباراً من الثالث من آذار مارس الجاري، مرده تأخر كييف عن توقيع الوثائق الخاصة بحل المسائل الخلافية بين الطرفين. وكانت "غازبروم" قد توعدت بإيقاف تصدير الغاز إلى أوكرانيا اعتباراً من 11شباط فبراير الماضي إذا لم يدفع الأوكرانيون متأخرات مستحقة، قدرتها بمليار وخمسمائة مليون دولار أميركي. ولم تقطع "غازبروم" حينها إمدادات الغاز، لأن الرئيسين الروسي والأوكراني اتفقا على إزالة العقبات القائمة. بيد أن كييف لم تدفع عملياً الديون المستحقة "لغازبروم". وقال متحدث باسمها إن الجانب الأوكراني لا يزال يدفع مستحقات العام 2007، ولم يبدأ بدفع فواتير العام الجاري. وتأتي غالبية إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوكرانيا من دول آسيا الوسطى، لكن الجانب الأوكراني يحصل على الغاز من شركة "غازبروم" لأن الأنابيب التي يضخ عبرها الغاز إلى أوكرانيا مملوكة لهذه الشركة. ومن هنا، فإن الغاز الذي يدخل إلى الأراضي الروسية يعتبر ملكاً لها. رسوم المرور إلى أوروبا من جهة أخرى، طالبت رئيسة الحكومة الأوكرانية يوليا تيموشينكو "بضرورة إعادة النظر" في اتفاقات الغاز مع موسكو، وخاصة التخلي عن خدمات الوسيط التي تتولاها حاليا الشركة السويسرية (RosUkrEnergo)، والتي تمتلك فيها "غاز بروم" نسبة خمسين في المائة. بيد أن بعض الساسة الأوكرانيين يرون أن وجود الشركة السويسرية يضمن لأوكرانيا سعراَ أقل، ويوفر ل"غاز بروم" ضمانة مالية إضافية، ولهذا يجب استمرار خدماتها. وتعتبر الشركات الوسيطة من الممارسات المنتشرة بشكل واسع في أوروبا، حيث يوجد "لغاز بروم" نحو 46شركة وسيطة، تمتلك في كل منها حصة محددة. وفي صورة أخرى للضغوط المقابلة، ألمح الجانب الأوكراني إلى رغبته في زيادة رسم مرور الغاز الروسي المتجه إلى أوروبا، عبر الأراضي الأوكرانية. بيد أن "غازبروم" في الرد. وأعلنت أنه بسبب "عدم توفر" الكميات المقررة من غاز آسيا الوسطى فقد تم توجيه غاز روسي إلى أوكرانيا يفوقه في السعر بنحو 75بالمائة. وقالت "غازبروم" أن واردات الغاز من آسيا الوسطى تقلصت بنسبة الثلث تقريبا (أي نحو 40مليون متر مكعب يومياً). ولهذا قامت الشركة بحلول 16كانون الثاني يناير بتوريد 740مليون متر مكعب من الغاز الروسي بسعر 7ر 314دولارا لكل ألف متر مكعب، أو بقيمة إجمالية قدرها 233مليون دولار. ويزيد هذا المبلغ بمقدار 100مليون دولار على قيمة الغاز الذي كان من المفترض أن تستلمها أوكرانيا من آسيا الوسطى بموجب العقود القائمة. و لم تجد "غازبروم" أن السعر الجديد الذي أعلنته لكييف باهظاً، فطبقا لتقديرات شركة "ترويكا ديالوغ" سوف يبلغ السعر المتوسط للغاز في أوروبا في العام الجاري مقدار 348دولارا لكل ألف متر مكعب. وترغب أوكرانيا في زيادة أجور ضخ الغاز الروسي إلى أوروبا من 7ر 1دولار إلى 32ر 9دولارات لكل ألف متر مكعب لمسافة 100كم. وانطلاقاً من أجور الترانزيت الحالية، وطول الأنبوب وحجم الضخ، تدفع "غازبروم" إلى كييف مبلغ إجمالي قدره ملياري دولار سنوياً. وفي حال زيادة الأجور على النحو المشار إليه، فسوف تبلغ المدفوعات الإضافية حوالي تسعة مليارات دولار. عرقلة مشروع السيل الجنوبي وفي بُعد آخر لخفايا النزاع الدائر، يمكن أن نشير إلى أن روسيا قد أزالت في شباط فبراير الماضي العقبة الأخيرة على طريق مشروع خط "السيل الجنوبي" الذي يتضمن إنشاء خط أنابيب في قاع البحر الأسود لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى جنوب أوروبا، وذلك بعد أن اتفقت مع هنغاريا على أن يمتد جزء من هذا الخط على أرضيها. بيد أن عقبة جديدة يمكن أن تظهر على طريق هذا المشروع، فهناك دولة معنية أخرى لم تقل الكلمة الفاصلة بعد وهي أوكرانيا، التي سيمر خط أنابيب الغاز في منطقتها البحرية الاقتصادية. ولا تستطيع أوكرانيا وفقاً للقانون الدولي منع روسيا من إنشاء خط أنابيب الغاز هذا، ولكنها تستطيع أن تضع العراقيل من خلال المماطلة في تقييم الجوانب البيئية للمشروع. وقد أعلنت الحكومة الأوكرانية صراحة بأن تسهيلها لمشروع "السيل الجنوبي" يرتبط بموافقة موسكو على مد خط أنابيب في قاع البحر الأسود لنقل الغاز من آسيا الوسطى إلى أوروبا عبر أوكرانيا، وهو الأمر الذي تراهن عليه رئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو. بيئة دولية غير مؤاتية أخيراً، يمكن القول أن البيئة الدولية الراهنة لا تشجع الروس على الذهاب بعيداً في الجولة الجديدة من حرب الغاز مع أوكرانيا. وكما يقول المحلل الروسي الكسندر شاتيلوف: ليس بإمكان روسيا حاليا تصعيد التوتر، ولهذا ستماطل أوكرانيا قدر المستطاع إلى أن تحين لحظة الإجراءات الحاسمة من جانب موسكو، حينها ستقدم كييف على التنازلات. ويرى شاتيلوف أن على روسيا أن تسلم بسلوك أوكرانيا حالياً، لأن الأخيرة دولة ترانزيت. وفي حال ظهور ما يهدد استقرار نقل الغاز إلى أوروبا سيوجه الأوروبيون اتهاماتهم للروس وليس لأوكرانيا. وهذه الحالة ستستمر إلى أن يبدأ تشغيل خطي "السيل الشمالي" و"السيل الجنوبي". وبعد ذلك لن يكون باستطاعة أوكرانيا اللعب على أعصاب (غازبروم). وما يمكن قوله ختاماً هو أن النزاع الروسي الأوكراني الجديد يصعب فصله عن المناخ السياسي المشحون بين البلدين، والذي بلغ ذروته مع تهديد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوجيه صواريخ استراتيجية نحو أوكرانيا إن هي استضافت على أراضيها قواعد لحلف شمال الأطلسي (الناتو).