في زيارتي لإحدى صديقاتي، كان طفلها ذو الثماني سنوات يلعب بلعبة إلكترونية في حاسبه الكفي بتركيز بالغ حتى إني أشك أنه انتبه لدخولي عندهم، وبعد ساعتين قضيتهما مع صديقتي وفي طريق خروجي تفاجأت بأن طفلها متسمر في مكانه ومابرح يلعب بلعبته الإلكترونية بتركيز ونرفزة أعصاب تتناسب مع أصوات دوي الرصاص والتفجيرات المنبعثة من لعبته وعالمه الافتراضي الذي ظل حبيساً فيه، غافلاً عن وقته وعن الناس من حوله، وعندما نبهت والدته إلى خطورة الوضع، قالت: صدقيني لا أرتاح من شطانته وطلباته وصوته الملحاح إلا إذا سمحت له بأن يدفن رأسه في هذه اللعبة التي لا يملها ولا تمله!!، وهي على العموم خير له من مشاهدة التلفاز وبرامجه الهابطة التي يخجل منها الكبير قبل الصغير!!.. وهذ الحالة ماعادت حالات فردية شاذة بل هي أقرب إلى الوباء منها إلى الظاهرة، وليت الأمر يقتصر على ساعة أو ساعتين، بل هي الساعات الكثيرة، وليت الحقوق والواجبات لا تضيع مقابل هذا اللهو الذي لا ينتهي، فالصلوات وحق الوالدين، وواجب التعلم والتثقف الذاتي، وواجب الاختلاط الاجتماعي مع الأقران والأقارب للتمتع بشخصية متزنة نفسياً واجتماعياً، والتمتع بمرونة التعايش مع الآخرين، وترتيب الأوقات واحترام معنى العمر والهدف من العيش في هذه الحياة، كل هذا وأكثر يضيع، بل وينعكس الأمر سلباً على سلامة الطفل من كل النواحي، فالناحية الصحية سوف تتأثر بترك ممارسة اللعب والرياضة والمرونة، وسوف تتأثر العينان ويضيع ضياؤهما وتذبل نضارتهما، وسوف ينحني الظهر والعنق لكثرة الانحناء على شاشة الحاسب أو الجوال، وسوف تتأثر مفاصل اليدين والكفين لتكليفهما بما لم يخلقا لأجله الساعات الطوال، ناهيك عن أمراض السمنة والبدانة بسبب قلة الحركة ومخالفة فطرة الله التي فطر الله الأطفال عليها من كثرة الحركة والقفز والجري واللعب حتى يشتد عودهم وتقوى عضلاتهم، أما الناحية العقلية فماذا ترجو من الانحباس في عالم كاذب وربما خاطئ، لا تخترع فيه جديداً ولا تشيد فيه منجزاً ولا تحصل فيه نجاحاً ينفع النفس أو الآخرين، وبالتالي فإن العقول سوف تضمر ويصغر حجمها كمّاً ونوعاً. أما من ناحية النفس فغني عن الذكر هذا الانعزال وما يصنع في نفوس الصغار التي لا تتطور وتنضج ولا تستقيم وتتعايش مع الآخرين إلا بالاحتكاك والمعايشة الفعلية للاقران وللراشدين فيتعلمون مايفرحهم فيزدادون منه ويتعرفون على مايؤلمهم فيبتعدون عنه، ويتولد عندهم الإحساس بالآخرين والشعور بمعاناتهم فينشأ عندهم حب الإحسان ومساعدة الآخرين، والصبر على أذاهم والتأقلم مع مصاعب الحياة الحقيقية، بدلاً من عالم افتراضي يكذب عليهم ويعيشهم في وهم لن يخرجوا منه إلا ليصطدموا بأرض الواقع الصلبة التي لا تجامل ولا تحابي، وحينها سوف يكون الاصطدام قوياً ومؤثراً وربما جارحاً ومعوقاً، فلذلك انتظروا لهذا الجيل إعاقة فكرية ونفسية وجسدية مالم نحسن نحن إليهم بإنقاذهم من هذه الأصنام التي يعكفون عليها الليل والنهار، اجعلوها فسحة لا تتجاوز الساعة وعلموهم تقسيم الوقت واحترام العمر، علموهم ماداموا طيعين لكم، وإلا فلا تشتكوا العقوق والعناد وصلابة الأخلاق، وعلى دروب الخير نلتقي...