أثناء كتابتي لآخر مقال (هل سيأتي يوم ينتهي فيه العلم؟) تذكرت وجود تقارير كثير تؤكد أن ذكاء البشر توقف وثبت عن التطور في معظم الدول - بل وبدأ في الانحدار في بعضها الآخر!! فلأول مرة منذ أربعينيات القرن الماضي لم يعد متوسط اختبارات الذكاء يرتفع في بعض الدول الأوروبية - وأصبح الأمر مؤكدا في الدنمرك والنرويج التي تملك سجلات ممتازة لاختبارات الذكاء منذ عقد الخمسينيات وحتى أيامنا هذه.. وكان متوسط ذكاء الشعوب (الذي يمكن قياسه بأخذ متوسط نتائج 100 مواطن) يزداد عاما بعد عام في الدول التي تجريه على طلابها ومواطنيها.. بدأ يرتفع في أوروبا منذ عقد الخمسينيات (بفضل التعليم وارتفاع مستوى المعرفة) قبل أن يثبت في منتصف التسعينيات ويبدأ في الانحدار في الدول الاسكندنافية بالذات.. وكان توماس تيسدال أستاذ علم النفس في جامعة كوبنهاغن قد حلل النتائج السنوية ل 500000 مواطن دنمركي ممن خضعوا لاختبارات الذكاء نفسها بين عامي 1954 و2004 فتبين له ان المتوسط العام توقف منذ عام 1990 قبل أن يبدأ في الانحدار بين عامي 1998 و2000 (بنقطتين) ثم بنصف نقطة من عام 2000 وحتى 2011.. أما في النرويج فدرس جون سندت من جامعة أوسلو مجموع الدرجات التي حصل عليها 960000 مواطن بين عامي 1957 و2002 واتضح له تقدم متوسط الذكاء الإجمالي حتى منتصف التسعينيات - قبل أن يبدأ بالتدهور عام 1994 ويستقر مجددا بدءا من عام 2002.. وهذه النتائج تتوافق مع اختبارات البرنامج الدولي لتقييم مواهب الطلاب التي تجريها منظمة (OCDE) في 34 بلدا وتؤكد وجود حالة استقرار في النتائج بدأت مع القرن الحادي والعشرين واستمرت حتى اليوم.. ورغم أن الأمر لم يدرس بشكل موثق في جميع الدول؛ ظهرت فرضيات كثيرة تحاول تفسير أسباب توقف أو تراجع متوسط الذكاء البشري.. فهناك مثلا باحثون من جامعة كولومبياالأمريكية اتهموا الانترنت عام 2011 بالحد من ذكاء الطلاب كونها تقدم المعلومة جاهزة بدل الحث على التفكير أو تبني موقف تجاه المعلومة (وكتبت أنا مقالا بهذا الشأن بعنوان: كوكب جوجل).. أما جون سندت وتوماس تيسدال فيعيدان السبب (في الدنمرك والنرويج) إلى ركود البرامج التربوية نفسها وتوقفها عن التطور (فماذا نقول نحن بالمناسبة؟).. أما عالمة التغذية ليندا غوتفردسون فترى أن السبب يكمن في وجود ترابط عكسي قوي بين حاصل الذكاء، واستهلاك منتجات غنية بالسكريات والشحوم الصناعية في سن مبكرة (وهذا مؤكد بالمناسبة)!! وكان علماء النفس والتطور مطمئنين دائما الى أن الذكاء البشري في ارتفاع مستمر.. ولكن الحقيقة هي أن هناك فرقا كبيرا بين التطور المادي والتراكم المعرفي (الذي تساهم فيه هذه الأيام آلاف العقول)، وبين ذكاء الأفراد وارتفاع متوسط الذكاء العام (الذي يمكن قياسه باختبار عينة من 100 انسان).. فالتراكم المعرفي لا يعني بالضرورة ارتفاع الذكاء البشري، والتقدم المادي لا يضمن عدم تراجعه في المستقبل - حيث يصبح الانتاج المادي مجرد عمل روتيني وأسلوب آلي مبرمج.. .. على أي حال؛ سواء توقف متوسط الذكاء البشري أو تراجع؛ يؤكد هذا ضمناً امتلاكه سقفا لا يستطيع تجاوزه مستقبلا (وهي النقطة التي ناقشناها في آخر مقال).. وفي حال ثبت هذا فعلا (خصوصا أن الحفريات تثبت أن سعة التجويف الدماغي للبشر لم تكف عن التقلص منذ آلاف السنين) سنصل إلى يوم تتوقف فيه قدرتنا على الاكتشاف والتوغل في خفايا العلم والمعرفة.. الى يوم لا ينتهي فيه العلم ذاته بل ستصل فيه عقولنا الى حدودها القصوى من الفهم والإضافة والتخيل وإدراك مالا يمكن إدراكه..