الشعر وثق معاناة الشعراء وأبان مشاعرهم تجاه ما يحدث كان من ابرز مظاهر التحولات الاجتماعية التي شهدتها بلادنا بعد إعلان الوحدة الوطنية انطلاق الناس نحو بريق الحياة الجديدة وانعتاقهم من ضيق المجال في النشاط المحاصر في المجتمعات المحلية إلى انفساح أرحب والتماس الرزق حيث تلوح بروقه. ولما كان الناس في القرية والبادية كثيرا ما تخلف ظنهم البروق فقد تردد بعضهم في النجعة نحو بريق التحولات الذي أغرى الشباب بالنزوع إليه، وظلوا رهن آمالهم بعودة الروح إلى ديارهم متمسكين بتراث الأجداد غير مدركين لاتساع رقعة وطن الأجداد. ولا يلامون في حب أرض تعهدتهم صغاراً وشبوا فيها كباراً. وحتى لا أسلب القارئ وقته أطرح نموذجا من الشعر الذي وثق معاناة الشعراء في زمن التحولات، و أبان مشاعرهم تجاه ما يحدث، و سعادتهم برؤية آثار آبائهم وأجدادهم وعملوا على بقائها حية كما عهدوها في صباهم. في كل بقعة من بلادنا نجد ألوان معاناة الشعراء، و نلمس إصرارهم على تخفيف معاناتهم، وقد اخترت منهم الشاعر عبدالله القعيد من أبناء الوشم وبالتحديد مسقط رأسه القصب. ونحن نعلم أهمية هذه المنطقة وبخاصة شقراء مركزاً ثقافياً منذ القدم و من أوائل من اخترق الآفاق نحو مصادر الرزق الواسعة. وشاعرنا رحمه الله من أولئك الطموحين، ولكن تعلقه بدياره وأمله في تنميتها استنزف موارد اغترابه واستثمارها في طبيعة أبت إلا عناده واستلاب مدخراته التي استثمرها في الزراعة حينا، وفي الرعي حينا آخر، ومع ذلك كان لكفاحه متعة قدر ارهاقه. يتمتع شاعرنا بسماحة فائقة وإيمان قوي، فكان تأخره عن الاغتراب براً بوالده، و صراعه من أجل البقاء في دياره حباً لها، ولا أدل على ذلك من مطلع قصيدة له: ديرة فوق ارضها عشت يوم اني رضيع حبها يجري بدمي على طول الحياة يختمها بقوله: الوطن عند الفهيمين له شان رفيع الديار حقوقها مع حقوق الامهات كانت أول مغادرة له الى الرياض عام 1380ه بعد أن كتب قصيدة شكوى لصديقه عبدالله بن زاحم في الكويت يشكو فيها تردي أحوال الفلاحة: يا عبَيْد يا ويلي من الغبن و يلاه في قصر أبا الجرفان ما حولي انسان أسكن قديم بناه و الشرب من ماه وهو هماج يكرهه ذيب رغوان والزرع ظَمْي و كمّل الجم ما ارواه و اقوم تال الليل والفجر ما بان أركض و ادوًّر درب رزقي ولا القاه زان الطريق لمشي غيري وانا شان و عزي لمن مثلي كثار شكاياه أشكي الهموم ولي ثلاثين ديّان أساحر الديّان واحرص على رضاه وهو عليّ يشيّن القول فتان أصبحت مملوكه وكسبي تلقاه ماله بزود هو ومالي بنقصان اليوسف في الأبيات صورة شعرية مذهلة نابعة من معاناة شاعر، تأمل مساحرة الديان مجاملة ومسايسة لم تحجب ضجر الديان منه، و تأمل وحدة الشاعر وقد رحل لداته، و ألم الشاعر من مشاهدة غراسه يتهددها العطش، وصعب عليه أن يرى جهوده تمنى بالفشل رغم اجتهاده وسواه زان له الطريق، وهنا يقرر السفر إلى الرياض التماسا للرزق ويمنى فيها بالقلق والضجر من ضوضاء المدينة وانصراف الناس لأعمالهم وراحتهم المستقطعة من وقتهم، فأين منه سكون الليل ونسائم البر وانفساح المجال ورحابة القرية فيحن إليها ويقرر العودة ضائقا بأحاديث المدينة المملة متجاهلاً نصائح البقاء في المدينة: تكفون يا عاذليني لا تعذلوني خلّوني انزل بمنزال على كيفي البر أحبه و قلبي فيه مفتونِ ومدا النظر به طلوع الشمس هو ريفي واذّن و اصلي واغني وارفع لحوني واشم طلق الهوا ارقى المشاريفِ ثم يقارن بين سكان المدينة والقرية: وجيراني اللي الى اهتميت سلّوني دمثين الأخلاق حلوين السواليفِ اللي على هبّة الريح يتنادونِ ناس يعرفون حق الجار و الضيف واهل المدن في طريق المجد يرقون لكنهم في عنا واكثر تكاليف البر قلبي يحبه لا تلوموني أعز للنفس و اقنع للمصاريف ويعود إلى قصر الزبارة حيث ذكريات صباه، وحيث غرسه وقد استثمر ما جمع من المال في شراء بعض الأغنام لعلها ترد خسائر مشاريعه، وتفرج عنه ضيقه من المدينة: نزلت مختارٍ بقصر الزباره أربع سنين وكنها عندي اسبوع وقتي ما غير أرعى الغنم في نهاره وانا وهن رقاد في الليل وهجوع إنها مهنة مارسها الأنبياء، ووجد فيها الشاعر سلوة وعزاء يجسدهما في أبيات جميلة احساساً منه بمبادلتها له مشاعر الود: ياغَنَمْ يوم الزمان اخلف وفوقه كان حاديكن على المخلوق حادي الشجر ظميان يابسة عروقه أبشرن نشري لكن عشب وزادِ و المحرّج ما نوصلكن لسوقه خوف يشريكن رديّ أو مترادي لين اشوف المزن مشعلة بروقه ثم تشبع جلّكن في كل وادي والله اللي كافلٍ رزق مخلوقه ما يضيّعكن وهو رب العباد وكل شي قدرة الرحمن فوقه رحمة الله فوق جودي واجتهادي ودام راسي ما حصل له ما يعوقه حقكن من قبل حق الروح بادي سارح صبحٍ قبل شيٍ أذوقه والآفاق مشوهبات بالبرادِ والحظيظ مصفّر في حضن شوقه والاّ انا ازعق في الزبار لْكِنْ و انادي أين جمعيات الرفق بالحيوان لترى رعاية شاعرنا المساوية للرفق بالأبناء، والتي لو لم تكن رعاية صادقة لما حضرت في الإبداع بهذه الصورة الرائعة. ويبدو أن الشاعر كان متعففاً مما يشغل الناس من حسد ونميمة ومعاملات سيئة، فكان يميل إلى الوحدة متخذا من الراديو والأغنام شاغلا عن هموم الآخرين ومن القيل والقال: نزلت بفلات كان منزل آبويه فيه و تركت المدن و ارزاقها و اعتزلت الناس ولا عندي الاّ الرادو اسمع منه و اوْحيه جليس و نعم فيه خيرة الجلاس ولاهو بيوذيني ولا انا باخاف اوذيه جميل الطبيعة لا كذوب ولا بلاّس واغرس الشجر في القاع ومن القليب اسقية و ابكّر بفنجال الضحى وان شكيت عماس والا مرّه التعبان يلقى مقيلٍ فيه ولا صكّت البيبان دونه ولا حراس ولا اسمع من اللي ريف قلبه يسب اخيه وياخذ بعرض اخيه هرجٍ بليا قياس ومن تسامح الشاعر أنه عندما كان في الرياض تعرض لحادث مروري وانكسرت رجله فتنازل ابتغاء الأجر والثواب وكان من حقه المطالبة بتعويض ولكنه كرم الاخلاق وله في ذلك قصيدة. وقصة أخرى حدثت في المزرعة حيث سرقت ماكينة استخراج الماء من البئر فكان ردة الفعل في كتابة أبيات عن الحادثة منها: ليته نشدني عنه والأمر ميسور خطرٍ أقول افداك والرزق مضمون وفي أواخر ايامه استحضر معاناته ونضاله فبدأ بهجاء الأغنام ثم استعرض مسيرة حياته الماضية مبتهلا إلى الله بالدعاء. ومن ذلك قوله: آه يا قلبي اللي جرّحته الغبون قاعداً بالفلاة أرعى ثمانين شاة كل يومٍ يزيد الهم والحال دون ليْن ضعف الحماس اللي بقلبي ومات كيف ضاعت حياتي بين صفر العيون بالعات ازرق ألما واكلات النبات وعزاؤه أنه أمضى ما انصرم من عمره نزيها شريفا لم يدنس حياته بما يعيبها: والمصايب عليّه لو توالت تهون دام عرضي نزيهٍ عن دروب الشماة و كم حرٍّ عفيف ما يغش أو يخون حالته حالتي بالقاع نمشي حفاة رحم الله الشاعر فقد كان نبيلا مثل حياة كثير من الشرفاء ونقل معاناتهم. و لمزيد من المعلومات عن الشاعر يمكن الرجوع لكتاب "شعراء من الوشم ج2" للأستاذ سعود بن عبدالرحمن اليوسف.