من أبرز المفارقات في رواية الكاتب المغربي عبد الرحيم لحبيبي، "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" هي تلك التي تقابلك في العنوان ابتداءً حين يعلنها مفهوم "التغريبة": فهي رحلة مغربي إلى المشرق، وليست رحلة مشرقي إلى المغرب، أي أنها "تشريقة" حسب الاتجاه الجغرافي للرحلة، بمعنى أن الرواية تقوم على رحلة مغربي إلى بلاد المشرق الإسلامي، وليس العكس. غير أن الكاتب يقول: إنه ليس ثمة مفارقة، فالرواية، حسب ما ذكر في حديث جرى أثناء حضورنا معاً تسليم جائزة الرواية العربية العالمية "البوكر" في أبوظبي قبل أسابيع، تسير وفق نمط من أدب الرحلات يجعل "التغريبة" بمعنى الرحلة أو الاغتراب تحديداً، وليس التحرك غرباً فقط، وهو ما يحدث فعلاً لبطل رواية لحبيبي، أو بالأحرى بطل القصة التي يعثر عليها راوي الحكاية ومحرر المخطوطة التي تتضمن القصة. فالتغريبة الفعلية، أي المعنى الأصلي، هي ما نجد في الملحمة الشعبية "تغريبة بني هلال" التي حاكاها الشاعر محمد الثبيتي في قصيدته "تغريبة القوافل والمطر". ذاك هو مرد الحديث عن مفارقة في رواية لحبيبي. يتبنى الكاتب المغربي حيلة تقليدية عرفها السرد منذ قصة "دون كيخوته" لسرفانتيس (أو ثربانتيس) في نهاية القرن السادس عشر حين يكتشف السارد أن قصة بطل لامانتشا ناقصة فيعثر على تكملتها في مخطوطة عربية يترجمها له أحدهم. وهذا ما يتكرر في رواية أمين الريحاني "كتاب خالد" في أوائل القرن العشرين التي يعثر راويها على كتاب بعنوان "كتاب خالد" يقدمه للقارئ. وهذان مثالان من أمثلة عديدة. غير أن تبني لحبيبي لتلك الحيلة السردية التقليدية لا يقلل مطلقاً من قيمة روايته الفنية أو الموضوعية، فهي الرواية التي أجمعت لجنة التحكيم في جائزة الرواية العربية العالمية للعام 2014 على أن مكانها هو اللائحة القصيرة لتنافس على الجائزة. وكانت الرواية قد استوقفتني مثلما استوقفت غيري من لجنة التحكيم تلك فوضعتها جانباً منذ البدء بوصفها عملا استثنائياً. عبد الرحيم لحبيبي أحد الأسباب الرئيسة للإعجاب برواية لحبيبي هي الإتقان الأسلوبي المتمثل باستعادة الكاتب لنمط من الكتابة شاع في أدب الرحلات قبل قرون، فهو أسلوب نسميه الآن تراثياً ونجده لدى الرحالة والمؤرخين كابن خلدون في القرون المتأخرة نسبياً. يحدث ذلك في جزء من الرواية هو الجزء الأكبر، إذ إن الرواية تبدأ بسارد يروي قصته في أحد الأسواق الشعبية في بلدته المغربية وعثوره على مخطوطة تتضمن رحلة العبدي يقرر تحقيقها والتعليق عليها بصفة شخصية بعد رفض أستاذه الجامعي الإشراف على ذلك التحقيق لنيل درجة جامعية لعدم اقتناعه به. من هنا تنشأ في الرواية لغتان، لغة السارد الحديثة ولغة المخطوطة القديمة أو التراثية التي يبرز لحبيبي قدرة فائقة على تقمصها فنشعر أننا نقرأ لابن بطوطة أو ابن فضلان. غير أن الرواية تتجاوز الإمتاع الفني للتقمص الأسلوبي حين يتبين أن الموضوع هو الرحلة إلى بلاد المشرق وتلمس أحوال المسلمين في تلك الجهة من العالم العربي الإسلامي، ليصبح الأمر أشد خطورة والهدف أكثر جدية من مجرد أدب رحلات يعتمد على وصف المشاهد ورواية الحكايات. ومع ذلك فإن الكاتب حريص على إحداث ما يمكن إحداثه من توازن بين متعة السرد وفنون الأسلوب من جهة، وجدية الموضوع، من جهة أخرى. فالعبدي إذ يرحل لهدفه الجليل يمر بقرى وأناس ويشهد أحداثاً فيها الطريف والمخيف، فهو إمام القوم تارة وعاشق الفتاة اللعوب المتمردة تارة أخرى، بل إنه يصل إلى مرتبة الإفتاء والتحكم بأوضاع بلدة بأكملها، إلى أن يقوده المطاف أو التغريبة إلى ربوع الحجاز ليشهد أوضاع الحرمين وأهلهما. ويكتنف ذلك كله كثير من السرد التاريخي الواقعي الذي تسنده هوامش كثيرة تشرح وتفسر لتطرح بذلك أسئلة سأشير إليها بعد قليل. الجانب الذي استرعى انتباهي ورأيته جديراً بالتعليق ضمن أمور أخرى هو الموقف من المشرق العربي الإسلامي، الجهة التي تبرز الرحلةَ إليها مفارقةُ العنوان كما ذكرت. فالرواية في ثلثها الأخير واضحة في تأكيد أن ما تسعى إليه هو تقويم حالة المشرق قياساً إلى حالة المغرب. فبعد حلوله في الديار المقدسة يتحدث الرحالة العبدي إلى شيخ من شيوخ مكة يقول له ما يفيد بأن الحال في المشرق ليست أفضل من حال غيره ليصاب العبدي بخيبة أمل يؤكدها بقوله: "لم يكن حال أهل المشرق أحسن من حالنا في المغرب، ولم يكونوا في مأمن مما أصابنا، أترانا توائم أشقاء أشقياء." وسوء الحال المقصودة تتصل بكون المسلمين في حالة تخلف أطمعت فيهم المستعمر المحتل فصارت بلادهم عرضة للنهب والسيطرة: "كانت الجزيرة من مكة إلى أقصاها على محدة فارس عرضة للنهب والسلب من طرف الانكليز الذين استفردوا بهذه المنطقة وببلاد مصر، تاركين للدولة الفرنساوية أرض الجزائر وتونس، ولجنس الصبنيول [الأسبان] سبتة وتطوان، وما خفي أعظم..." (ص201). خيبة الأمل هذه توثقها الرواية بهوامش أقرب إلى هوامش البحث العلمي، فتذكر وقائع تاريخية موثقة بالمصادر، كما في إشارته (أي محقق المخطوطة، كما يفترض) إلى تنازل بعض حكام الخليج للإنجليز مستنداً إلى وثائق نشرت في مجلة "عالم الفكر" الكويتية. هنا تبدأ الأمور تختلط: فهل نحن إزاء رواية أدبية متخيلة أم عمل تاريخي، أم هي حالة بين بين؟ قراء الرواية المعاصرة، لاسيما ما عرف منها بالرواية ما بعد الحداثية، يعرفون أن ما يفعله الكاتب المغربي ليس مما اتسمت به الرواية التاريخية، حيث تنسج الأحداث في سياق تاريخي لكنه متخيل وليس متصلاً اتصالاً موثقاً بالواقع، أي أنه سرد خيالي مستوحى من التاريخ وليس منبثقاً منه موثقاً له. الرواية هنا تنحى منحى يخلط الأوراق لتتداخل مستويات الواقعي بالمتخيل، تماماً كما يحدث في المسرح الحديث حين يتحطم ما يعرف بالجدار الرابع وينزل الممثلون ليتحدثوا مع الجمهور فيمتزج الوهم بالحقيقة. السؤال مهم لأنه يتصل بما تريد الرواية أن تقوله حول وضع العالم العربي الإسلامي، فمن المؤكد أنها ليست رواية تخبرنا عن الماضي وإنما تستعيد الماضي لتقول شيئاً عن الحاضر، وهو حاضر سيتفق الجميع على أنه ليس ما يحلم به المسلمون أو العرب. بيد أن ما يسترعي الانتباه بشكل خاص هو افتراض المغاربي العبدي أن المشرق أفضل حالاً من المغرب، وفي تقديري أن هذا الافتراض ثم ما يقود إليه من قراءة لأوضاع المشرق ليس مقصوراً على العبدي وإنما هو حاضر في الثقافة المغاربية المعاصرة، فطرح الأسئلة حول المشرق سمة بارزة في قدر لا بأس به من النتاج الإبداعي والفكري المغاربي ليس في العصر الحديث فقط وإنما منذ اندفاع العرب إلى الأندلس وسعي الكتاب والمؤرخين والفلاسفة المغاربة إما لمنافسة المشرق إما بالنسج على منواله أو للتفوق عليه، في علاقة طبيعية لكنها لم تخل من توتر، علاقة تصل الفرع بالأصل وتدفع بالفرع لتجاوز فرعيته ليكون مساوياً أو أصلاً آخر متعالياً. فكون الثقافة العربية الإسلامية ولدت في المشرق وظلت تتدفق منه منح ذلك المشرق مرجعية تدفع بمثقفي المغرب ومبدعيه إلى تقويم وإعادة تقويم تلك العلاقة، ولعل قراءة الجابري للعقل العربي مثال واضح، حين فرق بين عرفانية المشرق وعقلانية المغرب وفاضل بينهما في صالح الأخير. لحبيبي لا يفاضل بين مشرق ومغرب لكنه ينشغل من خلال راوية البحاثة المثقف ورحالته العبدي بتحليل مقارن يفضي إلى أن المشرق ليس أفضل حالاً "كما يفترض"، وهذا يدرج روايته الهامة في تلك العلاقة الجدلية التاريخية بين جناحي العالم العربي الإسلامي. فهل أبالغ إن قلت إن مفارقة العنوان، التي تجعل التشريقة تغريبة، تعبر عن اتجاه لا واعٍ لدى الكاتب لجعل المغرب وليس المشرق هو الاتجاه الطبيعي لرحلة البحث والاستكشاف؟ فطالما كان المشرق ليس أفضل حالاً من المغرب، لم الانشغال به إذاً والرحيل إليه؟