الوقت ضحى من عام 1010م بيتر صبي في التاسعة من عمره يعيش في قرية جنوبفرنسا، أصيب بألم في خاصرته اليمنى مع إسهال شديد وحمى. ذهبت به أمه إلى جدته التي قامت باستشارة عجوز أخرى في القرية. قررت هذه المرأة أن تقدم له سفرجلاً الذي كان يُعتقد أنه من الأطعمة القابضة للأوعية الدموية، متمنيةً للطفل الشفاء ومأكدةً للأم أن هذا هو العلاج الناجع. توقف الإسهال عند بيتر وانقلب إلى إمساكٍ شديد وانتفخ بطنه وزادت حالة بيتر شدةً وسوءًا. تم استدعاء طبيب من القرية المجاورة والذي أعطى بيتر مسكنات ونصح الأم بأخذ بيتر لطبيب عربي في الأندلس يقال له خلف بن عباس الزهراوي (توفي 427ه/ 1036م) وبالفعل عملت الأم بنصيحة الطبيب وسافرت به للأندلس. إلا أن المرض لم يسعف بيتر ولا أمه فقد توفى بيتر قبل أن يصل للزهراوي. ما أُصيب به بيتر تكرر سابقا مع كثير من الناس ويتكرر اليوم وأكاد أجزم أنه سيتكرر – والله أعلم بذلك - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فهذه الأعراض عاليه هي إحدى أعراض مرض التهاب الزائدة الدودية. الزائدة الدودية المكان الذي تعيش فيه أنواع من البكتيريا المفيدة في عملية الهضم، ذلك العضو الصغير المتعلق ببداية القولون (المصران الأعور) وظيفتها هو إمداد جهاز الهضم بالبكتيريا الصالحة بعد الإصابة بالأمراض الطفيلية والكوليرا والزحار والإسهال، بعد أن تكون هذه الإصابات ومعالجتها قد قلصت أعداد البكتيريا المفيدة في الأمعاء. تحتوي الزائدة الدودية على نسيج لمفاوي ذو أهمية مناعية لجهاز المناعة خاصة عند الأطفال. رغم ذلك، فإن استئصال الزائدة الدودية لا يؤدي لمضاعفات أو أعراض جانبية. ولأسباب غير معروفة، ينسد مدخل الزائدة إما ببكتيريا أو ديدان طفيلية أو قطعة من الطعام أو بذرة فاكهة عند نقطة التقائها مع المصران الأعور، عندما يتفاقم الانسداد بالتكاثر البكتيري داخل الزائدة، تصبح الزائدة منتفخة وملتهبة ومليئة بالقيح وتحدث الأعراض السريرية المتعلقة بالتهاب الزائدة الدودية. والتي تكون على النحو التالي: -ألم في البطن الذي يبدأ حول السرة وينتقل بعدها للجزء السفلي الأيمن منه وتزداد حدته خلال عدة ساعات – يصاحب الألم فقدان للشهية وشعور بالغثيان ورغبة في التقيؤ. يزداد الألم سوءً عند السُعال أو المشي أو عند مرور السيارة على مطبات أو حفر بالطريق – وقد يُصاحب الألم إمساك أو إسهال مع انتفاخ بالبطن وعدم قدرة على التخلص من غازات البطن وعندما يزداد الالتهاب تسري قشعريرة في جسد المريض مع إحساس بالحمى وارتفاع في درجة الحرارة. يتم اعتماد تشخيص الإصابة بالتهاب الزائدة الدودية على الفحص سريرياً ولا تلعب الفحوصات المخبرية دوراً كبيراً في نفي أو إثبات التشخيص، الفحوصات التشخيصية قد تشمل فحص الدم المخبري والذي يوضح ارتفاع في تعداد الكريات البيضاء وتحليل البول لاستبعاد وجود التهاب في الجهاز البولي والذي يشابه في أعراضه أعراض التهاب الزائدة الدودية. يتم تأكيد التشخيص بفحوص أخرى كالفحص الاشعاعي للبطن (X-ray ) - التصوير بالموجات الفوق صوتية - التصوير المقطعي ( CT ) – إجراء منظار لبطن والحوض. عندما ينظر المرء إلى تواتر تشخيص وعلاج التهاب الزائدة الدودية في الوقت الحاضر، لا يرى معه توثيقا جيدا لعلاج هذا المرض (التهاب الزائدة الدودية واستئصال الزائدة الدودية) والتقدم الذي طرأ عليه لم يتم إلا من خلال ما كتبه أطباء الجيلين الماضيين، ولكن هذا لا يعني أن الضوء لم يسلط على هذا الموضوع منذ ذلك الزمن الغابر – زمن أبو الطب أبوقراط. بطبيعة الحال، عمليات البطن الجراحية التي تمارس اليوم ليست بالفن القديم، ولذا ليس من المتوقع أنه عملية استئصال الزائدة الدودية قد أجريت في تلك الحقبة (على الرغم من أن معروفاً أن انتشار التهاب الزائدة الدودية في كلا الجنسين أكثر بكثير من التهاب أمراض المبيضين لدى النساء، ومن هذا المنطلق كان من البديهي أن نتوقع أن تسبق عمليات استئصال الزائدة الدودية عمليات بضع المبيض التي طورها أبو القاسم الزهراوي رحمه الله، على سبيل المثال). ولكن الحقيقة كانت مختلفة تماماً. في عصور ظلام أوربا، وقت تفوق جيرانهم المسلمين في الأندلس والمشرق الإسلامي، كان علم التشريح عند الأوربيين يعتبر من الشعوذة والدجل ومن العلوم التي كان يترفع عنها الأطباء والصيادلة والكحالين. فقد رأوا في فنَّ التشريح امتهانا للجسم الذي خلقه الله. بينما ألحَّ الزهراوي الطبيب المسلم الملقب في أوروبا بأبي الجراحة (ت 427ه/ 1036م) ومن بعده ابن النفيس -رحمهما الله جميعاً على درس التشريح؛ لأنه ضروري للجراحة، ولم يتم تشريح الجثث في أوروبا إلا عام 883ه/ 1478م، أو 900ه/ 1494م حيث أُجريت أول عملية تشريح في باريس؛ أي: بعد وفاة ابن النفيس بنحو مئتي سنة، وبعد وفاة الزهراوي بأكثر مِن أربعة قرون ونصف. ففي ظل التشريح تقدَّمت الجراحة التي غدَت في بلاد المسلمين فنًّا وعلمًا ذا أصول وقواعد، ارتفعت به على أيدي المسلمين فوق مستوى الأدعياء والمُشعوِذين والجهلة، وبلَغ هذا العلم ذروته عن طريق أبي القاسم الزهراوي الذي اشتهر بكتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وبخاصه المقالة الأخيرة التي يَبحث فيها الجراحة وآلاتها، وهي من الإبداع والجِدة بحيث جعلت أبا القاسم في مقدمة الأطباء العالَميِّين في القرون الوسطى. فهو"الزهراوي" أول من ابتدأ جراحة الأوعية الدموية، مثل خياطة الشرايين في حال قطعها أو ربطها في حالة النزيف، وهو أول من استعمل الحرير في خياطة الجروح، وهو أول من ابتكر الخياطة التجميلية فقد استخدم خيوطا من أمعاء القطط في الجراحات الداخلية، حيث إنها المادة الطبيعية الوحيدة التي تتحلل ويتقبّلها الجسد البشري، وقد ابتكر كثيرًا من الآلات الجراحية التي لم تكن معروفة من قبل، ورسم صورها وأحجامها والمادة التي تصنع منها، فقد عرف عنه أنه أول من قام فتح خراجات البطن واستنزاف ما بها من صديد وقيح وسجل في كتابه تحسن ملحوظ لحالات كثيرة من المرضى وقد كان ينصح بيغسل المريض قبل الجراحة وبعدها، كما كان والأطباء المسلمون في تلك الحقبه ينظفون المكان بالكحول أو زيوت الورود أو بخليط منهما أو بمحلول ملحي أو بالخل أو كلوريد الزئبق الثنائي لتطهير الجروح. كما استخدموا الأعشاب المختلفة وراتنجات منها اللبان والمر والقرفة لمنع العدوى. كان الأفيون معروفًا كمسكّن للألم منذ القدم؛ كما استخدمت غيرها من المخدرات كالبنج الأسود والشوكران وبذور الخس لعلاج الألم. كانت بعض هذه الأدوية وخاصة الأفيون، تتسبب في النعاس، وقد أكد بعض علماء المعاصرين أنها كانت تستخدم لإفقاد الشخص وعيه قبل الجراحة. لم يسجل عن الأطباء العرب أنهم قاموا بعملية إستئصال الزائدة الدويدة لا في مشرق العالم الإسلامي ولا مغربه بالرغم أن الزهراوي رحمه الله هو أول من ابتكر إجراء بعض العمليات الجراحية، مثل حصوة المثانة، واستئصال المبيض، وشق الحنجرة للتنفس، وهو أول من ابتكر طريقة الولادة بالحوض في حالة ما إذا كان وضع الجنين غير طبيعي. لم يستمر الأطباء الأوربيون في ممارسة هذا النوع من التدخل الجراحي بل فضلوا تأجيل العلاج الجراحي دائما حتى آخر لحظة ممكنة، وذلك عندما يكون الخراج كبيراً جدا ولافتا فعلا للانتباه. بل جنح بعضهم لعدم التدخل بتاتاً وترك الأمر يتطور والخراج يكبر إلى أن ينفجر تلقائياً ويخرج الصديد والقيح بشكل عفوي أو أن يسمحوا للمريض أن يموت موتة "سلمية"، دون تعريضه إلى إزعاج جراحة الخراج وفتح ونزح ما به من سوائل عفنة، ودون تعريض أنفسهم لتهمة قتل المريض الذي لا يَشْفّىَ ويموت من مرضه بعد عملية إستنزاح الصديد والغريب أن هذا النوع من العلاج كان قائماً ومقبولاً ويمارس بشكل واسع لدى الأوربيين ولم يتوقف الا قبل أقل من خمسين عاما. وفي تلك الأثناء كان الأطباء الأوربيون يرون أن إحدى طرق العلاج هو فصد (أي إخراج الدم من أوردة الساعد) وريد أحد الساعدين عندما تكون الحالة في بدايتها. وعندما تتعقد الحالة وتتقدم ويصاب المريض بانحسار البول وهو دلالة على اشتداد الالتهابات الداخلية في تجويف البطن فإن علاجهم في هذه اللحظة كان فصد وإهراق دم الوريد الصافن من الساق وإعطاء المريض عقاقير لوقف الغثيان عندما يكون الألم فوق السرة ومسهلات إذا أصبح تحت السرة مع حقن المريض بحقن شرجية بشكل قوي عند شكوى المريض من الإمساك وذلك ظناً منهم أنها ستساعد المريض في التغلب على الانسداد الذي يعاني منه. كان هناك عدد قليل جدا من الأطباء القدماء يحملون مرضاهم على ابتلاع حبوب مصنوعة من الرصاص وسألوهم بالبقاء واقفين على أقدامهم وأن يستمروا بالمشي على أقدامهم أبعد مسافة ممكنة، مؤملين أن هذه الكرات الرصاصية سوف تفتح مكان الانسداد في الأمعاء اعتماداً على أوزانها ويرون أنه كما زاد عدد هذه الكرات الرصاصية المبلوعة كلما زادت إمكانية واحتمالية زوال الانسداد. ومما ذكر في هذا الشأن ما كتبه الطبيب باري في القرن السادس عشر الميلادي أن الأطباء الأوربيين كانوا يجبرون مرضاهم على شرب ثلاثة أرطال من الزئبق في الماء الساخن وأنهم كانوا يرون أن هذا الفعل يبعد مرضاهم عن شبح الموت الوشيك المحقق ومن الغريب أن نجد هذا العلاج لا يزال قيد الاستخدام حتى في اواخر عام 1830 ميلادي. كما كانوا ينصحون المريض بالجلوس فوق قدر به زيت يغلي الذي تم حله بمختلف انواع المخدرات والمسكنات. إن أول من سجل عملية استئصال الزائدة جراحيا كان الدكتور أمياند كلودس عام 1735 م أثناء قيامه بعملية إصلاح فتق في العانة وجد في داخلها الزائدة والتي لم تكن ملتهبة. بينما قام الدكتور باركر هانكوك عام 1848م بعمل أول عملية استئصال حقيقي لزائدة دودية ملتهبة. لم تتكلل هذه العمليات بالنجاح إلا بعد أن دخل التعقيم الذي مارسه الأطباء المسلمون في عملياتهم الجراحية وأوصوا به كلاعب أساسي في العملية العلاجية برمتها وبعد أن قام جوزيف ليستر بإدخال مبادئه من التعقيم في هذا الوقت متناسياً فضل أجدادنا العرب القدماء في هذا الشأن، ونجح حيث فشل باركر هانكوك لأن التعقيم ساعد على تقليل إلتهابات الجروح والتسمم البكتيري الذي يحدث مع مثل هذه العمليات الجراحية. لقد عرف الطب هذا المرض منذ أمد بعيد وأُعطي أسماءً كثيرة جداً وقد أسهم علماء المسلمين في الكتابات والطروحات حول هذا المرض منها ما كتبه ابن سيناء (توفي 427ه /1037م). في كتاب القولنج واصفا ألماً يصيب الإنسان في بطنه يبدأ ويتمركز حول السرة يُصاحبه غثيان وحمى ثم يتحول إلى خاصرة المريض اليمنى وهو وصف دقيق لما نعرفه اليوم عن هذا المرض وما زال العلماء يتعلمون ويلاحظون ويدونون أعراض هذا المرض ويحاولون معالجته بطرق شتى إلى أن وصلنا إلى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، فلم يصل العلم لهذا المنهج العلاجي إلا بعد تجارب مضنيه منذ فجر التاريخ الى أقل من 100 عام مضت حيث اتضحت طريقة علاج التهاب الزائد الدودية والذي تبدأ بإبقاء المريض صائماً منذ دخوله غرفة الطوارئ، وإعطائه مضاداً حيوياً عبر الوريد لمساعدة جهاز المناعة على التغلب على أعداد البكتيريا الضارة الغفيرة الموجودة في منطقة المصران الأعور والتقليل منها، ونظراً لخطورة الحالة وسرعة تفاقم المرض فإن التدخل الجراحي هو الطريق الأنسب لعلاج حالات التهاب الزائدة الدودية، تتم الجراحة إما كلاسيكياً أو عبر التنظير البطني.. ودمتم بالصحة والعافية. * بيتر شخصية العدد – شخصية من نسج الخيال