قبل وسائل الاتصال الحديثىة كنا نعيش فيما يشبه العزلة عن العالم، ولم يكن أحد يسمع تلك الآراء الموغلة في التطرف والوحشية، من قِبل من نذروا أنفسهم أوصياء على المرأة، بل على الوطن بأسره! أما الآن فمجرد ما يتفوه أحدهم برأي شاذ سرعان ما ينتشر في العالم عبر قنوات التواصل الاجتماعي انتشار النار في الهشيم، حتى غدت تلك الآراء لفرط فجاجتها ومجافاتها للدين الحق، مجالا للتندر والتهكم علينا! لا تعد تلك الآراء عملا وطنيا، ولا سلوكا دينيا، وكان ينبغي لمن يتصدون للخطاب الديني أن يكونوا أبعد الناس عنها. لم تعد قيادة السيارة آخر الأوراق التي يتمسك بها القامعون للمرأة، فلقد وجدوا في الرياضة النسائية ورقة أخرى يحاولون بها إثبات وجودهم وهيمنتهم على قضاياها، فها هي الرياضة تعيدهم لسيرتهم الأولى من إفتاء وتحريض وتجمهر وهجوم على كل من دعا ووافق على موضوع الرياضة! لقد صار الشأن النسوي لفرط عجزنا عن حل مشكلاته المتشابكة مجالاً للعبث وإرباكاً للمجتمع بآراء شاذة من هذا النوع، لكنهم لا يخجلون من سخرية العالم منهم! إن من يتأمل المشهد من خارج بلادنا يروعه أننا منذ زمن مازلنا نتحدث عن تحريم وتحليل الرياضة النسائية وغيرها كثير من قضايا المرأة التي لم يعد يعيرها أحد اهتماما، لأنها صارت من المسلمات، والمدهش أنها تحرم بمبررات لم يعد عقل الإنسان المسلم يقبلها في هذا العصر. فحينما عجز أولئك عن إيجاد دليل واحد من القرآن أو السنة الصحيحة يحرم رياضة المرأة، لم يتوانوا عن إصدار آراء شاذة تخالف مقتضيات العقل والفطرة السليمة وحاجة الناس في هذا العصر، ليفتحوا بها أبواباً للفتنة وللإساءة للوطن وللإسلام، متذرعين بسد الذرائع! فهل أولئك أكثر إسلاما من الرعيل الأول من المسلمين الذين - عندما انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية وأقام حواضره الكبرى في دمشق وبغداد والأندلس - لم يجدوا ضيراً في التفاعل مع الحضارات الإنسانية التي سادت في تلك الربوع، الأمر الذي صهر الحضارة العربية لقد نادى بعض أفراد المجتمع منذ مدة طويلة بإدخال حصص الرياضة في مدارس البنات أسوة بمدارس البنين، وذلك لأهمية الرياضة صحياً وعقلياً للفتيات ومع أنهم طالبوا بأن يكون ذلك في محيط المدارس المغلق وليس في أندية مختلطة أو ملاعب رياضية مفتوحة، إلا أنهم جوبهوا بالرفض القاطع غير القابل لأي نقاش سداً لباب الذرائع! الإسلامية في بوتقة تلك الحضارات، ما يعني أن العرب واجهوا كثيرا من الأفكار التي لم يعرفها مجتمع المدينة، وتعاملوا معها باعتبارها ثقافة جديدة تساهم في رقي المجتمع وتطوره، وكان في المجتمع الإسلامي طوال تلك الحقب قوى متشددة ترفض كل جديد باعتباره بدعة لم ترد في القرآن ولا في السنة، وقوى تقدمية لم تعاد الدين بل انطلقت من ثوابته ومفاهيمه التي لم تدعُ إلى تكبيل حركة الإنسان، والحجر على حريته فيما لا يخالف جوهر العقيدة، فجابهت القوى التقدمية الفكر التقليدي، عندما كشفت عن عظمة الدين في حرصه على الرقي بالإنسان. ولقد نادى بعض أفراد المجتمع منذ مدة طويلة بإدخال حصص الرياضة في مدارس البنات أسوة بمدارس البنين، وذلك لأهمية الرياضة صحياً وعقلياً للفتيات ومع أنهم طالبوا بأن يكون ذلك في محيط المدارس المغلق وليس في أندية مختلطة أو ملاعب رياضية مفتوحة، إلا أنهم جوبهوا بالرفض القاطع غير القابل لأي نقاش سداً لباب الذرائع! ومما جاء في تحريم الرياضة، قول أحدهم: لا تجوز المطالبة بممارسة البنات للرياضة في المدارس فضلاً عن إقرارها، مشدداً على أن في ذلك الاتجاه اتباعا لخطوات الشيطان الذي أمرنا الله باتخاذه عدوا! وأضاف: "إن ممارسة الرياضة في المدارس بالنسبة للبنات حرام، نظراً لما تجر إليه من مفاسد لا تخفى على ذي لب، ولا تجوز المطالبة بها فضلاً عن إقرارها"! ولا ندري والعجب يأخذ منا كل مأخذ، ما هي تلك المفاسد التي لا تخفى على كل ذي لب، سوى أن الطالبات يتحررن من الجلوس ساعات طويلة في تلك القاعات الدراسية البائسة، وأن الرياضة ستجعلهن يلبسن ملابس رياضية، وهذا باب من أبواب التشبه والعياذ بالله! لقد شطح به الخيال فتصور أن الرياضة لن تقرّ فقط في المدارس بل إن الأمر سيتجاوزها حتى يؤدي إلى ما هو أبعد من محيط المدرسة كقوله: "إن اعتماد مادة (الرياضة) في مدارس البنات هو البذرة الأولى للمشروع الرياضي النسائي الكبير.. إذ سيتبع ذلك الرياضة في التعليم العالي، بفتح الكليات التي تخرج المدربات والمعلمات، ثم إقامة بطولات مدرسية وجامعية ومحلية ودولية، وذلك سينخر في حيائهن وأخلاقهن"! وكأن الطالبات يعشن في جزر معزولة عن العالم فلا يرين ولا يسمعن ما يموج في العالم من حراك على كل الأصعدة، اجتماعيا وأخلاقيا وفنيا من سينما وموسيقى وغناء ورقص وبرامج ترفيهية، وعروض أزياء وغير ذلك، لاشيء عند أولئك يشكل خطرا على عفة الفتيات وأخلاقهن سوى ممارسة الرياضة في جو مغلق ومعزول، فهل يعي أولئك مقدار ما في مبرراتهم من سذاجة وجهل واستغفال للآخرين؟ يقولون هذا على الرغم من أن بلادنا تكتظ بالأندية النسائية التي تُمارس فيها الرياضة والسباحة وأنشطة رياضية أخرى، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، ولم يعترض أحد عليها، لا على الصعيد الرسمي، ولا المجتمعي، فلماذا مدارس البنات وجامعاتهن دون غيرها؟ كما لم نسمع أن تلك الأندية تسببت في انحلال النساء أو في خروجهن عن حياض الدين، ولم تؤد إلى ارتدائهن ملابس فاضحة، وكل الأندية النسائية لديها قائمة من الضوابط يأتي على رأسها ضرورة الالتزام بالملابس الساترة، حتى السباحة لا تسمح بها إلا بالمايوهات التي تستر الجسم إلى حدود الركبة، وفيما يخصّ المدارس فإنه لم يعهد منها التساهل مع الطالبات في تطبيق الضوابط، فالمدارس التي تتشدد حتى في تسريحة الشعر وطوله، ولبس العباءة على الرأس وتغطية الوجه، كيف لها أن تتساهل فيما تلبسه الطالبات في وقت الرياضة فيما لو أقرت. وكعادة العاجزين عن إيجاد مبرر أو دليل من القرآن على ما يمنعونه، فإنهم سرعان ما يجترحون آراء على درجة عالية من الغرابة وعدم المنطقية، ويأتي التحريم على رأس تلك الآراء، كعادتهم في استسهاله، يقول أحدهم: "الرياضة في المدارس بالنسبة للبنات حرام؛ نظراً لما تجرّ إليه من مفاسد لا تخفى على ذي لبّ، ولا تجوز المطالبة بها، فضلا عن إقرارها" يستسهلون التحريم متجاهلين النهي عن ذلك بقول الله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لمَا تَصفُ أَلْسنَتُكُمُ الْكَذبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لتَفْتَرُوا عَلَى الله الْكَذبَ إنَّ الَّذينَ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الْكَذبَ لَا يُفْلحُونَ). لم نكد نفيق من ذلك الاكتشاف الشاذ الذي تناقلته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي "الذي أثبت فيه صاحبه العبقري العلاقة الجدلية بين عذرية المرأة، ومقود السيارة، فقلب النظريات العلمية التي ظل العالم مقتنعاً بها حتى اليوم"، ليأتي من يقول الكلام نفسه عن ممارسة الرياضة، مؤكدا خطورتها على الفتيات بقوله: "إن رياضة النساء تعد خطراً عليهن وعلى عفافهن وذلك في مسألة القفزات التي من شأنها أن تكون سبباً من أسباب ذهاب بكاراتهن"! وليته سأل الأطباء، بدلا من الاعتماد على رأي شخصي لا ينهض به دليل مما يثبت أن رهطا من بيننا فتح الله عليهم باكتشاف لم يمكّن غيرهم منه، ثم ماذا عن قفز الحبل الذي تمارسه الفتيات منذ سن مبكرة في المدارس وغيرها، هل أثر فيهن؟ متى وكيف تمنع هذه الآراء الشاذة، التي لا تستقيم ومنطق العلم ومقتضيات العصر، وتجعلنا أضحوكة بين الأمم؟ وهاجم آخر- عرف بآرائه المتطرفة التي يبثها عبر حسابه في تويتر - مجلس الشورى بقوله: "لم ينتفع المواطن أي نفع من مجلس الشورى.. لقد تجاهل المجلس 12 مطلبا مهما للشعب وطالب بأكثر من 12 مطلبا للسيدات." ويقول هذا وكأنه وأمثاله اهتموا يوما بقضايا المواطن والوطن، سوى التضييق على النساء، وغض البصر عن المتآمرين، والتماس الأعذار للإرهابيين، كما عدّ الرياضة مؤامرة على البنات والأعراض والدين! فماذا يبقى من الدين ومن منظومة القيم إذا كانت ممارسة المرأة للرياضة تشكل تهديداً وزعزعة له من النفوس والسلوك؟ كما انبرى آخر ما انفك لدن كل إشكال يقوم بدور (الكومبارس)، عبر القنوات والصحف مدافعا ومبررا رؤى المتشددين، ومهاجما آخرين! بقوله: "إذا ظل مجلس الشورى في تخبطه وعدم التزامه باختصاصه وعدم بحثه قضايا مصيرية تهم المواطن فسينزع الناس ثقتهم منه وتزداد الأصوات تطالب بجعله منتخبا"، انتخاب أعضاء مجلس الشورى هو أقصى أماني المتشددين، ليستحوذوا عليه كما في تجربة المجالس البلدية في أول تشكيلها، لكن الوطن لن يلدغ من جحر التشدد مرتين. وعلق ساخرا بقوله: "إن قرار رياضة البنات" ليس من اختصاص مجلس الشورى، بل من اختصاص هيئة كبار العلماء لأنه يتعلق بالحلال والحرام". ليس أسهل على من يريد مصادرة حق للمرأة، من المسارعة إلى تحريمه، حتى لو كان موقف الدين واضحاً بشأنه، ولم يعد الأمر ديناً بل فقه عادات وتقاليد ومصالح مشتركة بين هذا وذاك. وإذا كنا سنعود في أمور الحياة المعتادة إلى هيئة كبار العلماء فماذا أبقينا للوزراء والمسؤولين؟ أوليس هذا هو الكهنوت بعينه؟ بل إنه ولاية الفقيه التي تسيطر على جميع مفاصل الحياة، ولا يستطيع من يخضعون لها أن يفعلوا أي شيء يمس حياتهم بلا فتوى منه! أين هؤلاء عمّا يحيط بنا من إشكالات تهدد أمننا الداخلي، ومؤامرات تحاك ضد بلادنا برعاية إسرائيل وأمريكا وعملائهما من دول الجوار العربي والاسلامي؟ أين أولئك من استهداف شباب بلادنا بالمخدرات التي لولا توفيق الله ثم جهود رجال المكافحة لأغرقوا بذلك الطوفان الذي ترعاه عصابات دولية؟ لم نسمع استنكارا منهم، ولم نسمع إشادة بجهود رجال المكافحة، فلا يشغلهم شيء إلا المرأة، وكيف يريد أولئك إقناعنا أنهم إنما يحرصون على الوطن؟ ثم أين أولئك من مؤامرات الإخوان وتربصهم ببلادنا، أم أن الأجندة واحدة؟ أخيرا لقد هددت وزارة الشؤون الإسلامية خطباء المساجد، بطيّ قيد أيّ خطيب ينحرف بالمنبر عن غرضه الشرعي ويحوّل خطبة الجمعة إلى نشرة سياسية، وإبعاده مطلقا من وظائف المساجد، وهي خطوة إيجابية في الطريق الصحيح، فلماذا لا يطبق مثل ذلك على كل من يتعدى على أبناء الوطن ونسائه، باتهام النسوة بسرعة الانحراف، واتهام الآباء والأزواج بالدياثة، لسماحهم لبناتهم وزوجاتهم بالدراسة في الخارج، أو العمل في مجال مختلط.. لقد طفح الكيل من تجاوز أولئك وآن الأوان لوضع حد لهم.