قبل أقل من مئة عام، وبالتحديد قبل توحيد المملكة على يد الفذ العبقري بطل العروبة والإسلام الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - كانت جزيرة العرب عامة، ووسطها خاصة، في حالة لا يعلمها إلا الله جل جلاله، حالة من التمزق والتشرذم والغارات والسلب والنهب على جوع زائر وفقر دائم وفرقة لازمة في القرى والبادية. كانت القری الصغيرة المتناثرة في قلب الصحراء كالمعزى في ليلة مطيرة، منكمشة في بيوتها الطينية الصغيرة تحيطها الأسوار من شدة الخوف وللحماية من الغارات. وعلى ماذا يغير المغيرون وفي ماذا يطمح الطامعون؟!.. يا حسرة!.. مجرد تمر حويل ومعزى هزيلة!.. ولكن البديل عند المغيرين هو الموت من الجوع!.. كان التمر الحويل والمعزی الهزيلة تعني لهم كنوز قارون! فالبديل هو الموت!.. وكانت تلك القری المتناثرة.. ومتناحرة أيضاً.. ولربما تناحر الناس في قرية واحدة!! وشاخ فيها أكثر من شيخ!! وتحارب أهل القرية الواحدة التي ما هي بناقصة لا في الجوع ولا في الخوف!.. إن جاك من الدنيا طَرَف فاشكر مولاك لموجبها وقد ذكر (ابن بليهد) في تاريخه عن نجد أن بعض القرى يتنازع إمارتها أربعة رجال!.. وتقسم أربعة أقسام! كل ربيع من ربيعاتها يتأمر عليها شيخ! القرية كانت في الأصل كلها عبارة عن (ربعة) صغيرة جدا من أصغر قرية في المملكة الآن! ومع ذلك قسموها إلى (أربع ربيعات) وشاخ في كل (ربيعة) منها (شيخ) وداخ الباقون! لم يكن هناك وحدة في كثير من القرى فضلا عن وجود دولة مركزية!!.. أما الموارد فكانت أشح من الشح نفسه.. نخيلات على جال النفود تصارع الموت!.. ومزيرعات بحجم بيوتنا اليوم تتقاسمها عدة عوائل يعملون فيها ليل نهار فربما تؤتي بعض الثمر القليل وربما تموت! وقليل من المعزى تذهب مع الراعي في الصباح الباكر ويندر أن تعود كلها كاملة! بعضها يسرقها الحنشل (قطاع الطرق) وبعضها تأكلها الذئاب! وبعضها تموت من الهزال خاصة إذا شح المطر وأجدبت الأرض وصوّح المرعى!.. ولا يملك (معزى) واحدة.. أو اثنتين.. لا الأغنياء الذين حظر عليهم من العين!.. وحين تعود المعزى مع الغروب يفرح أهلنا بقدومها فرح العاشق بزيارة الحبيب!.. يحلبون ما في ضرعها من حليب قليل!.. ويخلطونه بالماء الكثير.. ويقتاتون منه مع شيء من التمر القليل الحويل!.. وكثيراً ما ضربت المجاعات والأوبئة قرى نجد وصحراءها فمات خلق من الجوع والمرض وربما أكل بعضهم الميتة والقدّ (وهو الجلد اليابس الذي مضى عليه دهر حتى صار كالحجر.. يمضغونه!) أما الماء فنادر وبعيد.. والبادية لم تكن أحسن حالاً!.. فالغارات دائمة.. والتعب ضربة لازب! والمرض لا يوجد له طبيب.. والمطر قليل.. والقوت زهيد.. والمخاطر والتحديات بلا نهاية.. ومن الأمور المعتادة - وقتها - أن تجد في الصحراء هياكل عظمية مخيفة لبعارين وبشر! ولم تكن وقتها تخيف.. لأنها اعتادتها العين! اللاّعي وقد ورد هذا المصطلح في وصايا بعض النجديين! ومنهم (صبيح) من أشيقر والذي كان عبداً صالحاً لم يتزوج وترك مزرعة صغيرة أمضى عمره في زراعتها والكد فيها ليل نهار ثم أوصى أن يكون تمرها وقفاً في سبيل الله وحرر وصيته من أعجب وأدق الوصايا في التاريخ! وسبق أن كتبت عنها هنا بعنوان (أضبط من وصية صبيح)! وقد حررها - رحمه الله - بدقة متناهية! ووزعها على سراج المسجد وإفطار الصائمين في العشر الأواخر ويعطى منها (اللاعي) وهو الذي يخرج في القرية ليلاً فيصيح من شدة الجوع! و(اللاعي) مشتقة من (اللوعة) أو (اللعلعة) لا أدري ولكن ما أدريه أن في ذلك صورة لمنتهى الجوع والبؤس وعبرة لمن يعتبر! وبفضل الله عز وجل.. ثم بفضل موحد الجزيرة ذلك الرجل العبقري العظيم الذي سيخلده التاريخ، الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - بدّل الله حال هذه البلاد الكريمة من شدة الخوف إلى قوة الأمن الذي صار مضرب الأمثال حتى (رعت الشاة مع الذئب) وساد الاستقرار العميم الذي سار في البلاد مسيرة الشمس في رابعة النهار، وانهالت الخيرات والنعم وتوافدت العمالة من مختلف الأمم - بعد أن كان أجدادنا يهاجرون خشية الجوع - وصار للمملكة مكانة مرموقة بين الأمم وكلمة مسموعة لدى كل الدول بل وفض خيرها على العالمين. إن ما نخشاه الآن هو الترف والبطر وكفر النعم.. فإننا - مع الأسف - صار الكثير منا يطبخون ضعف ما يأكلون.. ويطلبون من المطاعم.. يملأون (المزابل) بأنعم الله.. وهذا غير سائغ ولا جائز لا ديناً ولا عقلاً ولا الاقتصاد.. هناك هدر هائل وإسراف بين في الأكل والشرب والملبس والسفر واعتماد على الأجانب واعتياد على الكسل والترف والترفع عن خدمة النفس وهذا أمر لا يصح، وإن لم نع ونعد للرشد والترشيد ومعرفة قدر النعمة التي حبانا الله بها فإن العواقب قد تكون وخيمة لا قدر الله، فإن الاتكالية والترف والكسل هي سوس الأمم: اذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم