المحتسبون يشغلون الرأي العام بتلك الآراء والمواقف المريبة، والمشككة في حق المرأة في اختيارها الحياة الكريمة التي ترتضيها وتستحقها، ويعملون على إرهابها دينياً، وهذا شأن بعض المتشددين في كل العهود، حالهم كحال من أراق دم الحسين وسأل عن حكم دم البعوض حقوق المرأة جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان، وأيّ خلل فيها له انعكاسات خطيرة على الحالة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في المجتمع، لكنّ هناك من نذروا أنفسهم لمحاربة كل ماله علاقة بالمرأة وحقوقها، بإصرار عجيب على تحقيق أجندة تدين في مفاهيمها لعصور التخلف والجهل، ليؤكدوا وجودهم، وليثبتوا -واهمين- أنهم مازالوا مؤثرين وأن لهم الكلمة الفصل فيما يتعلق بأنوثتها(التي يعدونها نقمة وعاراً يجب قمعها حتى يتولاها الله)، وكيفية ظهورها للعالم الخارجي، وإدارة أمور جسدها، من تغطية وحجب وتزويج في سن التاسعة، بعد أن اغتال التشدد طفولتها فمنعها حتى من ممارسة الألعاب أو الرياضة في المدارس التي جعلوها أشبه بالسجون، وجعلوا تغطية الوجه إلزامية لمن ما زلن في طور الطفولة، أما وجوب خنوعها لمن يتولون أمورها من الذكور، فتلك قصة صارخة من قصص قمعها. حفل الأسبوع الماضي بثلاث وقائع احتسابية ضد المرأة، فقد استبق أحد منسوبي وزارة العدل -حسب صحيفة مكة- مناقشة مجلس الشورى قانون الأحوال الشخصية، بتوزيع خطاب لعدد من الأعضاء مع ثلاث نسخ من كتاب "حكم تقنين منع تزويج الفتيات أقل من 18 سنة وتحديد سن الزواج"، وبيان من المفتي السابق عبدالعزيز بن باز حول حكم هذه المادة، وهي خطوة عدّها مراقبون تهدف إلى تجييش الأعضاء لرفض توصية منع زواج القاصرات أو تحديد سن الزواج. والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان من جراء موقف منسوب وزارة العدل هو، هل يوافق على تزويج ابنته ذات التسع أو العشر سنوات لمن يتقدم لها خاطباً؟ أم التنظير والتجييش لبنات الآخرين! أما أحد نجوم الصحوة فقد غرد محاولاً إثبات أن ثلاث ولايات أمريكية تبيح زواج البنات دون سن الثامنة عشرة، وهو كلام لم ينهض به دليل، بل هو غير صحيح على الإطلاق، ثم أليست أمريكا دولة (كافرة) في نظره؟ فكيف يتخذها قدوة؟ وإن ذهبت لتسأل ذلك الداعية هل يزوج ابنته القاصر، لأجاب بالرفض، لكن لا بأس من تشجيع الآخرين على تزويج صغيراتهم! والواقعة الثانية تجمهر بعض المحتسبين أمام مبنى وزارة التعليم العالي، للمطالبة بإلغاء ابتعاث المرأة، وكانت الحجج التي ساقوها هي ذات الحجج التي ساقها من عارض تعليم المرأة في القرن الماضي، حيث لم تخرج عن ذات السياق المعاد والمكرور عن التربص بالمرأة المسلمة، ومحاولة تغريبها وإفسادها، وغير ذلك من الحجج الواهية التي لا تعدو أن تكون ضجيجاً وصخباً لا طائل من ورائه. أما الواقعة الثالثة -حسب جريدة الحياة - فقد استبق عدد من الأشخاص وصفوا أنفسهم بالمحتسبين جلسة مجلس الشورى-التي ناقشت توصيتين، تدعو إحداهما إلى إدراج مادة التربية البدنية للبنات في التعليم العام، وتدعو الأخرى إلى إسناد تدريس تلاميذ الصفوف المبكرة في مدارس البنين إلى المعلمات في المدارس الخاصة - بالتجمع أمام مقر المجلس في الرياض، مطالبين بتمكينهم من مقابلة رئيس المجلس للاعتراض على الأمرين! ما زالت المرأة في بلادنا تعاني الاضطهاد والتفرقة العنصرية، من تلك الجماعة التي جعلت نفسها وصية عليها، ما ينسجم تماماً مع طبيعة المجتمعات المغلقة، التي تمارس فيها فئة التشدد أقصى درجات القمع تجاه المرأة! ورغم ادعاءات بعض المتأسلمين، بأن المرأة معززة ومكرمة لأن الإسلام قد حفظ لها مكانتها، إلا أن الواقع والحقائق والممارسات تؤكد أنهم يخالفون ذلك في غاية الصرامة، بل يخونون توجهات الملك الذي وفر للمرأة في عهده ما لم تحظ به من قبل، جاء الإسلام وحرر المرأة من أغلال الجاهلية، وأنقذها من الوأد، ومع ذلك جاء في هذا العصر من يعمل جاهدا على وأدها، بحرمانها من حقوقها التي لم يمنعها منها الإسلام، إذ لم يمارس ضدها عنصرية فاقعة كما يحاول بعضهم ذلك، فمنحها حق العمل كالرجل، وحق اتخاذ قرارها بنفسها دون سلطة من يسمونه ولي أمرها الذي يتجاوز كثيرا في حدود ولايته، حدّ أن يمنعها من العمل أو الدراسة بل حتى إجراء عملية جراحية! هناك من يريد النكوص إلى الوراء بإرجاع المرأة إلى أزمنة سحيقة حين هيمن الفقهاء على شؤونها فاجترحوا أموراً ضيقوا بها عليها، ولذا يريد بعضهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، لكن هيهات لهم ذلك، فالمرأة شبت عن الطوق ولم تعد تلك الخانعة الضعيفة التي تصمت أمام سلب حقوقها، إلا فئة من النسوة استمرأن العبودية، والمباهاة بالأغلال التي يرتعن فيها في ظل فكر التشدد، زاعمات إنما ذلك بحق الإسلام! لو أجرينا مقارنة سريعة بين المرأة المسلمة في دول العالم العربي والإسلامي، لوجدنا أنها تتمتع بحقوقها العصرية كاملة دون وصاية ودون احتساب ممن هبّ ودبّ، فالمرأة المسلمة على سبيل المثال لا الحصر تعمل في وظائف عليا في الدولة والقضاء والجيش والشرطة، والفضاء والطيران، والمختبرات النووية، وتنافس قرينها الرجل في كل المجالات دون عوائق، ودون عزل وحجر، ودون تأثيم، ودون تذكيرها بأنها ناقصة عقل أو مفرطة العواطف، أو أن جسدها عورة، وصوتها عورة، وجلوسها في محفل علمي مع الرجل كارثة تهدد السلم الاجتماعي، وتقوض أركان الدين، ولذا شيدنا أقساماً نسائية في بعض مرافق الدولة معزولة تماماً عن محيط الرجال، ذلك المحيط المفخخ الذي قد ينفجر إن مرت امرأة مجرد مرور بتلك الحصون المنيعة، ولذا استغلت تقنيات العصر لإحكام العزل عليها، حتى منعت من حقها في ممارسة المهام التي اقتصرت على الرجل الذي لا يفوقها علماً ولا عقلاً ولا قدرات! أعطيت المرأة في تلك المجتمعات المسلمة حقها في قيادة سيارتها، فلم يُشكك فيها، ولم تُجبر على قطع مسافات قربت أم بعدت برفقة رجل أجنبي، بل حسب مفهومهم (الخلوة)برجل أجنبي، ذلك المفهوم المطاط الذي يستخدمونه بانتقائية عجيبة، إذ يرون عملها في الفضاء العام الذي يعج بالناس كما في الشركات والمكاتب والأسواق خلوة واختلاطاً، لكن بقاءها مع سائق أجنبي في سيارة واحدة، يكاد فيها أن يحصي أنفاسها، ويسمع دقات قلبها ليس بخلوة، وذلك كي يمارسوا قمعهم لها، ويحرموها حقاً لم يرد عن الإسلام ما يحرّمه، إنه فقه التوحش، والتربص بالمرأة والإمعان في فرض أجندتهم التي تقوم على الانتقائية المقيتة، لكن الزمن لم يعد زمنهم والمرأة ستقود سيارتها! ولماذا نذهب بعيداً هل يجرؤ أولئك على الاحتساب على النساء المشاركات في لجان جامعية ووزارية عليا ومؤتمرات على سبيل المثال، وهن يجلسن في مكان واحد مع الأعضاء الذكور؟ أم التسلط لا يكون إلا على النسوة اللاتي لا حول لهن ولا قوة؟ إن الذين يحللون ويحرمون ويصدرون فتاوى تحط من قدر المرأة وتجهض مكتسباتها، يجب أن يوضع حدّ لهم، فما من أحد كلفهم بذلك، أو طلب منهم أن يكونوا أوصياء على المرأة، والملك -حفظه الله- قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء، وما أصدره الملك من قرارات حظيت بمباركتهم، فلمَ يتجاوز أولئك المحتسبون؟ كما مُنع التجمهر، ومنع التحريض، فمن يتجمهرون عند جهة حكومية إنما يقومون بالتحريض على من فيها من مسؤولين، وهذا يعني قمة التحدي للأوامر الملكية، وإن تغطوا بالدفاع عن الدين، فأولئك مسيسون لا همّ لهم إلا فرض أجندتهم التي صيغت في الردهات السرية للحزبيين والمتأخونين! المحتسبون يشغلون الرأي العام بتلك الآراء والمواقف المريبة، والمشككة في حق المرأة في اختيارها الحياة الكريمة التي ترتضيها وتستحقها، ويعملون على إرهابها دينياً، وهذا شأن بعض المتشددين في كل العهود، حالهم كحال من أراق دم الحسين وسأل عن حكم دم البعوض، يغمضون أعينهم عن الفساد وإهدار أموال الدولة، والغش في مواصفات بناء المشاريع، وتزوير صكوك الأراضي من قبل بعض كتاب العدل، وتقاضي الرشى من بعض القضاة، والتآمر على الدولة، وممارسة الإرهاب من المنتمين لقاعدة المقبور ابن لادن، ونهب أموال الصدقات لصرفها على الإرهابيين، وغلاء الأسعار الذي يعصف بمحدودي الدخل، والتستر على مخالفي الإقامة، وتزوير الشهادات العلمية الذي تلبس فيه بعضهم، وغير ذلك من الأمور التي تهدد أمن الوطن واستقراره، وتصب في خانة الاحتساب، لكنهم لا يجدون ما يمكن أن يزعزع الدين ويهدد أركانه سوى رياضة المرأة وابتعاثها، وقانون يحرم تزويجها طفلة، الحق عند هؤلاء انتقائي، فلا يعبأون بأمن الوطن ويجفلون عن الاحتساب في أمور تهدد استقراره، كتآمر المحسوبين على الإخوان المسلمين فيغضون الطرف عن تلك الممارسات تملقاً وارتزاقاً! الذين يتصدرون للاحتساب ضد قضايا المرأة يجعلون الدين أحكاماً قاصرة عن مواكبة التطور ومتطلبات التنمية في وقتنا الحاضر، وفتاوى عاجزة عن فهم فقه الواقع، مما يزهِّد بعض البسطاء في الدين نفسه، اعتقادا منهم أنها رؤية الدين وليست رؤية المحتسبين الانتقائيين! في حين أن الأديان أنزلت، والشرائع شرعت لإسعاد الإنسان، وإعلاء قيمة الفكر، واحترام العقول، والمواءمة بين الدين ومتطلبات الإنسان، ليكون المسلم حراً متصالحاً مع نفسه ومع المجتمع، متحملاً مسؤوليته أمام الله ثم أمام الناس، محققاً غرض الدين بأن يكون في خدمة الإنسان وليس العكس، كما يصوِّره المتشددون!! الاحتساب في هذه الصورة على كل كبيرة وصغيرة، يضع المجتمع بل الدولة في مأزق حقيقي لا مخرج منه إلا بتحجيم أولئك المحتسبين الذين يعارضون سياسة الدولة. ويقيمون شرخاً بين المشرعين وفئات المجتمع التي تصدق مزاعمهم، بأن كل ما يعطى للمرأة مخالف للدين. لقد حققت نساء الوطن كثيراً من المكتسبات التي لا تتعارض مع جوهر الدين، ما يحتم بأن تكون أمورهن خارج دائرة الاحتساب ووصايته، وبعيداً عن طموح متسلقين لا يحققون وجودهم إلا من خلال التحجير على المرأة، بالاحتساب المسيس الذي يعاملها بدونية تامة لتهميشها والتعتيم على منجزاتها. التحية لنساء هذا الوطن المناضلات، والشكر للداعمين، ولمن يرونهن شريكات في الحقوق والواجبات!