أشرت في الجزء الأول من هذا المقال إلى ما اُصْطُلِحَ عليه ب(فروع العقائد)، وهي تلك المسائل(الكلامية) التي كانت مثار خلاف بين المتكلمين حول مسائل فرعية، ك(الخلافة، والإمامة، والإيمان، والموقف من مرتكب الكبيرة) وخلافها، وأنها، أي فروع العقائد، هي الطرف الرئيس في معادلة العنف والتسامح على مر التاريخ الإسلامي، ثم خلصت إلى التساؤل"هل المتسامح فقهياً هو بالضرورة متسامح عقدياً، أم أنه قد يكون متسامحاً فقهياً ومتشدداً عقدياً في ذات الوقت؟". من منطلق أن"العقيدة" هي العامل الرئيس في جدلية(العنف والسياسة والدين)، فإننا نستطيع القول بانه ليس هناك تلازم بين التسامح الفقهي والتسامح العقدي، فقد يكون الفقيه/المجتمع متسامحاً فقهياً، ومتشدداً عقدياً في نفس الوقت. إن التاريخ الإسلامي ليحفل بنماذج من الفقهاء الذين كانوا متسامحين فقهياً، لكنهم كانوا متشددين في رفض الآخر من منطلق عقدي بحت. من بين أولئك، شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي تعتقد السلفية الجهادية أنها تسير على منواله، وتُحَكِّم منهجه في التعامل مع المخالفين. فلقد كان رحمه الله متسامحاً فقهياً بدرجة كبيرة، على الأقل بمقياس زمنه، إذ شكلت اختياراته الفقهية أبرز ثقب في جدار التشدد الفقهي السلفي، الحنبلي تحديداً. ومع ذلك، فلقد كان رحمه الله متشدداً فيما يخص العلاقة مع المخالفين له في العقيدة، خاصة منهم الشيعة والمتصوفة. وقبل ابن تيمية، لم يكن أبو محمد بن حزم الأندلسي متسامحاً فقهياً إن التاريخ الإسلامي ليحفل بنماذج من الفقهاء الذين كانوا متسامحين فقهياً، لكنهم كانوا متشددين في رفض الآخر من منطلق عقدي بحت. من بين أولئك، شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي تعتقد السلفية الجهادية أنها تسير على منواله، وتُحَكِّم منهجه في التعامل مع المخالفين فحسب، بل إنه كان يرى أن الحرام ما حرمه الله أو رسوله بدليل مقطوع به ثبوتاً ودلالة، وما سوى ذلك فهو حلال. ولذلك، فقد دعا رحمه الله إلى إعادة النظر في أصول الاستنباط التي وضعها الشافعي، بدعوته إلى إلغاء(القياس البياني) الذي يعتمد على البحث عن أصل سابق ليقاس عليه الفرع الجديد،(النازلة الجديدة)، وحجته في ذلك أن القياس، كما طرحه الشافعي، الذي هو عبارة عن إلحاق فرع بأصل، لا يكون إلا بين الأشياء المتماثلات، أما المختلفات فلا يمكن استخدامه فيها. ونتيجة لذلك، فقد طرح فكرة استبدال القياس البياني بالقياس الأرسطي. كما دعا أيضا إلى إعادة النظر في (الإجماع) بصيغته التي طرحه بها الشافعي،إذ عده تشريعاً من دون الله ورسوله، ودعا بدلاً من ذلك، إلى الإجماع العملي الذي يعتمد على دليل مأخوذ عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وبهذا المنهج الحزمي، تضيق دائرة الحرام كثيراً، ويصبح الحلال هو الأصل الذي يحكم الحياة. ومع ذلك، فلقد كان رحمه الله متشدداً جداً ضد مخالفي أهل السنة، وخاصة الشيعة. ومن يقرأ كتابه(الفصل في الملل والأهواء والنحل) سيستغرب كيف يكون ابن حزم متسامحاً فقهياً إلى درجة أن من يقرأ فقهه سيظن أن المحرمات في الشريعة أعز من الكبريت الأحمر(كما هو تعبير الغزالي)، وبنفس الوقت، يكون متشدداً مع مخالفيه من داخل الديانة لا من خارجها بتلك الحدة. في جدلية(العنف والسياسة والدين)، والتي أفاض فيها باحث متبحر مثل الدكتور: يوسف زيدان، كانت"العقيدة" هي العامل الذي ينوب عن الدين في تلك الجدلية، لأن العقيدة، كانت ولما تزل، هي ميدان التنافس/الرفض للآخر. وبناء على ذلك نقول: إن الاستراتيجية التي ينبغي أن تدشن، في مجال التعليم خاصة، هي تلك التي ستعتمد منهجاً يركز على الأصول الجامعة: أصول العقائد التي جاء بها القرآن والسنة، وهي الأصول الستة المعروفة( الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)، وترك ما سواها مما ألحق بها من مجادلات وخلافات كلامية، ويعيد الاعتبار إلى تحكيم المبدأ القرآني في حرية العقيدة، وفي العلاقة مع المخالف استصحاباً لقوله تعالى:"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"،وقوله تعالى" فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ"، وقوله تعالى" فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر"، وقوله جل ذكره"وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيكفر"، وقوله تعالى"إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً"، وقوله تعالى" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". إن هذه الآيات كما يقول الدكتور:الجابري تقرر حرية الإنسان في الاعتقاد، فهو حر في أن يعتنق الإسلام، لكنه إذا أعرض فليس من حق الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجبره على ذلك. وفي مجال المواطنة، يؤمل من هذا المنهج إعادة الاعتبار لعقد(صحيفة المدينة) الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بين سكان يثرب، من المسلمين وغير المسلمين، والذي كرس أسس المواطنة المدنية قبل انبثاقها في الغرب قبل ألف سنة ونيف، تلك الأسس التي تقوم على احتفاظ أهل كل ملة بدينهم(حرية العقيدة)، مقابل اشتراكهم في حماية المدينة/الدولة (يثرب). وهذان الركنان من أبرز أركان المواطنة الحديثة التي أسستها فلسفة الأنوار في الغرب. لقد كان من مواد ذلك العقد الاجتماعي الأول من نوعه في التاريخ البشري، والذي يقرر مبدأ المواطنة أو المساكنة على أساس مدني بحت، ما يلي:"وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم. وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ساعدة ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف. وإن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف. وإن بطانة يهود كأنفسهم. وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم. وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن بينهم النصر على من دهم يثرب". إن تَبنّي مثل هذه الاستراتيجية، خاصة في التعليم، سيؤدي إلى إشاعة التسامح ونبذ العصبية والفرقة والتصنيفات الإيديولوجية والتضليل والتكفير. أما أن نعلم الطالب أن من سوى السلفية، كالأشاعرة والمعتزلة والصوفية مبتدعون، وبعضهم لديه"شركيات"، وأن ما سوى(السنة) كالإمامية والزيدية والإسماعلية(ممن يشاركوننا المساكنة/المواطنة) روافض ضُلَّال منحرفو العقيدة، بلا تفرقة بين معتدليهم ومتطرفيهم، وبلا أخذ بالاعتبار تدخل السياسة في إذكاء أوار العداء المذهبي، وأن نعلمه أن حرية العقيدة التي جاء بها القرآن نُسِخت بحديث آحاد، أو بما يسمونها(آية السيف)، ثم نطلب منه أن يكون متسامحاً، مكيفاً لعلاقته مع المخالفين على أساس المواطنة فحسب، فنحن كما ذاك الذي يزرع الأرض حنظلاً ثم يتوقع منها أن تثمر عنباً!