لم تعد الثقافة العامة تقتصر على قطاعات معينة أو مواقع محددة، لقد اكتسب المجتمع لغة جديدة وصياغة رائعة للنصوص وبنية جيدة للسؤال، حيث انفرد بدور رائع في مجتمع تقليدي ونفذت إلى عمقه دون تكلف، مما ولد لديه ثقة بذاته ومصادر معرفته وأنشأ جسراً من التواصل بينه وبين الناس. لم تكن حياة الناس من قبل آمنة لاسيما في العصور الأقدم، لأن العزلة فاقت الأسباب، فقد كانوا يقضون أوقات فراغهم بعيداً عن أحداث العالم ويجهلون شؤون العصر باستثناء القراء والمثقفين، ويفتقد أغلبهم إلى جدولة تقنية تُذكر، باستثناء تداول الصحف ونقل المعلومة بشكل محدد، فضلاً عن مهام تعليمية ومنهجية فقط. إن ما تقدم من الزمن حجة على ضرورة الاستمرار وتحديد دلالة واضحة لمعايير متجددة ومتنوعة أهدافها إكساب الفرد مهارات غير منهجية، ففي الفترة الراهنة من هذا العصر تتبع الإعلام العنف في كل أشكاله، ونقله بشكل مباشر، وأصبحت أخبار الأحداث والكوارث أكثر انتشاراً، فمهما ازدهرت الحياة لن تخلو من متغيرات جذرية في حياة الأمم، مما جعل للثورات الطبيعية والسياسية والتقنية مجالاً مشهوداً، كل يعمل من أجل حياة أفضل وعيش أرغد وحقوق أوفر. إذن، فمن الواضح أصبح اكتساب هذه الجزئية من التقنية اكتساب فرضي بمحاذاة تأمل كبير للجديد القادم، وضمن مهام عشوائية قد تعيد بناء الذات، إما لغرض التكوين أو إلى تاريخ متحيز للمكان والزمان، وتجربة تستهدف تفكيك روابط طلاسم الانغلاق، فبعد الحرب العالمية الثانية تغيرت خارطة العالم، وتفاقمت نتائج كبيرة في دول العالم الثالث، وبقى خيار التغيير عصيّ المنال في عقول الشعوب، إلى أن تسرب الزمن من بين أيديهم، وتعلق تأويلهم بما نجم من أنماط تكرر الحياة القديمة، وتبني مراحلها حسب غاية الماضي. وقد بيّن "شتراوس" من خلال نظريات المعرفة التاريخية، (أن القرابة الدموية تحدد علاقات الأفراد بعضهن ببعض عن غير وعي منهم، وتتشكل هذه العلاقات نسقاً على شاكلة اللغة، فإذا كانت اللغة هي تبادل للكلمات، فالزواج تبادل للنساء، والاقتصاد تبادل للبضائع، إذن نحن أمام تجليات مختلفة لنفس البنية، وهي التبادل سواء درسنا علاقة القرابة أو اللغة أو الاقتصاد، وهذا التبادل هو ما أدى بالبشر إلى الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة). ثم قام هذا العصر بمقتضى العلم والتقنية جنباً إلى جنب، وأصبحت العلاقة وثيقة بين الإنسان والآلة وساهمت المعلومة في إثراء العقول، فلا يكاد يخلو فرد من اقتناء جهاز أو اثنين يحملهما في كل مكان وتحت أي ظروف، والنزوع إلى مظهر متطور بصفته كياناً فاعلاً يجيد تبادل المعلومة ونشرها واستقبالها عبر WhatsApp، فقضية المعرفة اليوم لا تقع تحت شروط أو حدود، بقدر ماتكون وسائل مختلفة مغرقة في التفاؤل. إن الزمن الاجتماعي هو زمن ظرفي ودوري، ولكن يتشكل الوعي فيه حسب معطيات الناس والاقتصاد والدولة، فمهما كانت ثقافته سطحية وأمدها قصيراً، فإن المتضادات في هذا العصر سخرت الكثير من المعاني والحجج إلى حد الإفراط، وأتاحت للفرد فهم الواقع، وكيفية الحصول على حقوقه المشروعة على نحو أكثر دقة، ومشاركته في زمن الأحداث السريع توحي بأن العالم ملكية عامة وليست خاصة لفئة دون أخرى، وأن جميع التفسيرات متاحة وتداولها يعتبر معرفة فرضية وهامشاً من الحرية، فنحن أمام فكرة حاضرة في أذهان الناس، غيرت العقول والواقع الفيزيائي، لذلك طرح النقاش بكامل الصرامة المنطقية، وارتفعت الأصوات باحثة عن كيفية مقنعه لأنماط عديدة كانت مختزلة، فأصبح بالإمكان ربط الأدوار بعضها ببعض ضمن قواعد التقنية الحديثة التي قامت بإحضار الثقافة من مخبأها الخامد.