مدخل : ألفظك يا مر الحدج ليش ما ألفظك مر(ن) ما هو بعلاج وش ينبغى به ؟! يُعبر الشعراء عن الكثير من المواقف الحياتية المختلفة التي قد تعترضهم معايشة أو مشاهدة، ولذا فإنّ الشعر لم يكن ديوان العرب لتسجيله أيامهم وحوادثهم فقط وإنما هو قد يضاف إليه في هذا الجانب مهمات أخر كما هو يفعل في وصفه لخصائصهم النفسية ومواقفهم الأخلاقية وعلائقهم الاجتماعية . والصداقة هي حاجة إنسانية ملحة، تكاد – بسبب إلحاحها – أن تكون فطرة وغريزة ، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه ، يستوحش من الانفراد ويأنس للخُلطة ويرتاح للمسامرة ، ولذا هو يبحث دوماً في مسارب الحياة عمن يُشاكله طبعاً ويأتلف معه روحاً ، فيصحبه عندئذ ومن ثم يؤاخيه ويُخلص له. وفي أحيان ثانية فإن سبب بحث الإنسان عن أصفياء وخلصاء يرجع إلى أسباب أخرى هي غير الألفة أو المشابهة الروحية والأخلاقية ، كأن ينحى في طلبه هذا الأمر بحثاً عن شخصيات يجد فيها ما يفقده من نفسه ؛ فيكون هذا الصديق عندئذ مكملاً له ومتمماً عليه ، وهو ما قد يصح تسميته بالصداقة التكاملية، وأخيراً فإن تكوين الصداقات - في أحوال نادرة جداً – قد يكون سببه هو المغايرة بين الصديقين والتباين في أحوالهما، وهي حالة تتأتى لأسباب مختلفة ليس هذا مجال بسط الحديث عنها . أحمد الناصر والعرب أمة مهيأة لتقدير الصداقة وتثمينها أكثر من غيرهم من الأمم الأخرى ، وذلك بسبب تكوينهم الاجتماعي وطبيعتهم الأخلاقية وعنقودية تسلسلهم الوراثي النسَبي، ولذا كانت الصداقة حاضرة في حياتهم وأدبهم وفكرهم ووجدانهم، ولها فيما سبق أن ذكرناه مكانة خاصة وترمومتر اجتماعي تقاس منه أشياء هامة لديهم مثل المعدن والأصالة والطبع ، وذلك لما تتضمنه – أعني الصداقة - من مؤشرات أخلاقية ودلالات قيمية والتزامات اجتماعية ، فصارت لأجل ذلك كله إحدى الأماني التي باتت من المستحيلات: لما رأيت بني الزمان وما بهم خل وفي للشدائد أصطفي فعلمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي بل وصارت عند بعض الشعراء هي الحياة كلها ، كما في قول الشاعر: سلام على الدنيا إذا لم يكن بها صديق صدوق صادق الوعد منصفا هذا الحرص على الصداقة عند الإنسان العربي جعل لها شروطاً قوية وموازين خاصة وعهوداً هي غير مكتوبة ولا منطوقة ، لكنها في مجموعها الكلي تشكل عقداً ثنائياً اجتماعياً تحكمه الفطرة السوية والخلق القويم والعرف المتوارث ، ومن يخل بهاته البنود أو بعضها فإنه حينئذ يكون عُرضةً للعتاب أو للانتقاص والامتهان أو العداوة الشديدة بعد محبةٍ أكيدة، يقول الشاعر محمد بن علوش: تبي نبذه عن أبشع كره يسكن فالحنايا البيض ؟ شف اللي حب واحد وكرهه من عقب ماحبّه والصداقة يعترضها ما يعترض صحة الإنسان من الاعتلال أو الوفاة ، وتعتبر لحظة الإعلان عن إلغائها وبتر مودتها لحظة حاسمة ومؤلمة ومفصلية في وجدان أصحابها ، ولأجل هذا فإن الشعراء ( الأخلاقيين ) لم يفت عليهم من مشهدها الأخير تسجيل مشاعرهم والجهر بقرارهم والتوضيح – أيضاً - لأسبابه ؛ وذلك لأثرها النفسي العميق، ولكون وقوعها من جغرافية الحياة هو بين زمنين وشعورين مختلفين ... ولهاته الأهمية في نفوسهم ولتجذرها في وجدانهم فإن كثيراً من هؤلاء الشعراء قد كتب بشعره شهادة وفاة صداقة ما كانت في يوم من الأيام لشخص هو في محلة النفس أو أكثر ، فأعلنها في أبياته دون مواربة ، وباح بها دون كتمان ؛ وذلك من خلال أساليب شعرية متنوعة وبدوافع نفسية مختلفة ، تأتي – على الأغلب - بحسب تكوين الشاعر النفسي ومزاجه الشخصي من جهة ، ولمتانة الصداقة وقوتها من جهة ثانية ، أو – ثالثة وأخيرة - بحسب الجرح ومستوى الجُرم الذي قد افتعله ذاك (الصديق) المبتور مع الشاعر المتألم. وللشعراء من هذه الجهات الثلاث أبواب شعرية ونفسية مختلفة، فبعضهم مرهف الحس، يأتي كله حين يأتي ، ويغادر كله حين يغادر ، فلا يترك الباب موارباً، ولا يعترف بخط الرجعة ، لأنه – بسب حساسيته أو صرامته - ذو مشاعر جامحة، وعاطفة مشبوبة، تحكمه اللحظة، ويسيطر عليه الشعور، ويؤلمه الجحود، ومن هذا الباب كانت لامية معن بن أوس ذائعة الصيت، والتي تهادى فيها الشعور بين ألم وأمل في صديقه ، إلى أن أعلن بتر مودته بقوله: وكنت إذا ما صاحبٌ رام ظنتي وبدل سوءاً بالذي كنت أفعل قلبت له ظهر المجن ولم أدم على ذاك إلا ريثما أتحول إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبل! وعلى هذا النحو وفي ذات المجرى كانت قصيدة الشاعر الشعبي عبدالله مسيب الجروان العنزي – رحمه الله تعالى - ، والتي قد جعلنا أحد أبياتها الرائعة والمعبرة مدخلاً لهذه المقالة، إذ يقول هذا الشاعر بعد صبره الطويل على أذى صديقه: ترى الصديق اللي إليا طحت ينهضك هذاك لا يهدى ولا ينصخا به مبغض محبينك محب لمبغضك ولو هو شقيقك ينزع الله شبابه وشيء فعلته ربك اللي يعوضك من شان شيء ما تعلم عن أسبابه من حال تفرح به ومن حال يمرضك والصبر زين وعند ربك ثوابه وإلا الخطا من حق منزل فرايضك راع الخطا ينصح وياجب عتابه كم واحد على الصداقه يراكضك وإليا انتهى ماهو على ماتهقابه طيبٍ بغير أهله إليا فات يغمضك ياصح مقصوده يبين الردى به وإليا زعل وده بالأسنان يقرضك ومعروفك اللي سابقا مادرابه تلقاه عن وزنك يحاول يخفضك ويجعل مسارك مع أمور تشابه يقول لو تفهم يفيدك ويوعظك لكن بعذلك ماتفيد الطبابه إلى أن يقول بيت القصيد، فيكتب شهادة وفاة هذه الصداقة غير آسٍ عليها بقوله : ألفظك يا مر الحدج ليش ما ألفظك مر( ن ) ما هو بعلاج وش ينبغى به ؟! وبمثل هذا الحزم وهذا الإصرار كان قول أحد الشعراء معلناً بتر صداقته: الصاحب اللي ما يقدر خويه فرقاه ما تبغى صلاة استخارة ! ومما سبق فإنه لا شك بأن لخيبة الآمال في الصديق دوراً كبيراً في تدوين بعض الشعراء انقطاع مودتهم لهؤلاء الأصدقاء المنبتة صداقتهم ، يقول الأمير محمد الأحمد السديري في هذا الشأن : لا خاب ظني بالرفيق الموالي مالي مشاريه على نايد الناس ! هذه بعض أحوال الشعراء النفسية وأساليبهم الفنية في إلغاء صداقتهم ، وهي ليست الوحيدة إذ إن ثمة أحوالا وأساليب أخرى لها صفحة تالية.