تعتمد سياسة المملكة على التنمية الاقتصادية من خلال إيجاد رؤى جديدة تدفع عجلتها لتكون في صفوف الدول المتقدمة، ويُعد خط الصناعة من أهم الخطوط العريضة للوصول إلى أهداف تلك السياسة، والتي اعتمدت عليها الكثير من الدول المتقدمة الأخرى. وعلى الرغم من أهمية ذلك إلاّ أنه يلاحظ وجود عزوف من قبل الأفراد للإقبال على مجال الصناعة والحرف الصناعية والمهنية، والذي عمّق من تلك النظرة ارتباط صورتها في المجتمع بالشباب الذي أخفق في التعليم، أو لم يستطع الحصول على فرصة قبول في احدى الجامعات، ليكون المعهد المهني هو الخيار البديل، حيث يُعد تعويضاً عن البطالة فقط، وليس إيماناً بأهمية الحرف الصناعية والمجال المهني ومدى تأثيره على واقع الوطن الاقتصادي. ولم تبذل المعاهد التقنية جهداً في دعم منتجاتها من حرفيين وصناعيين، حيث يتخرج الطلاب ليجدوا أنفسهم في مهب الريح، دون طريق وظيفي واضح، أو رؤية تحفظ لهم حقوقهم، وزاد من ذلك نظرة المجتمع التي أصبحت تعقد المقارنة بين من يعمل في هذه المهن والعامل الأجنبي! فمن أين يتم تغيير تلك الصورة؟ ومن أين نبدأ ليكون لدينا جيل قادر على خوض مجالات الصناعة دون تردد أو خجل؟ ماذا تفعل المعاهد لكي تغيّر من تلك الفكرة، مع إيجاد واقع حقيقي يكفل الحقوق الوظيفية لمثل هؤلاء الصنّاع؟ ولكي نُغيّر النظرة السائدة نحو المجال التقني والمهني، يجب أن تشجّع مؤسسات المجتمع جيل اليوم على الصناعة، على أن يبدأ ذلك من المدرسة بإيجاد ورش تساعد على الإبداع والابتكار، كذلك لا بد أن يكون لدى الشباب فكرة عن المراكز البحثية التي تؤهلهم للدخول في المجال الصناعي، إلى جانب أهمية تغيير النظرة الاقتصادية للأعمال الحرفية برفع المرتبات، أو إيجاد مسميات جيدة تعطي قيمة معنوية، وأخيراً يجب أن لا تنحصر مهمة المعاهد في التعليم للشباب فقط، بل لا بد من رفع مستوى وأخلاقيات المهنة، وكذلك إيجاد معايير تدفع الآخرين لاحترامها والتسابق عليها. تطوير المعاهد وشدّد "د. عبدالعزيز الدوسري" -المدير التنفيذي لوادي الرياض للتقنية- على ضرورة تطوير معاهد التقنية لكي تتواءم مع خطة التنمية العاشرة في المملكة، وحتى تلبي احتياجات الوطن في إثراء المعرفة والتقنية، مضيفاً: "يجب أن تُطور المعاهد الفنية، وأن تأخذ مفهومها الحقيقي وفقاً للتطلعات"، مبيناً أنه من المهم وجود معاهد وكليات متطورة خاصة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات وأمن المعلومات والتصنيع، مشيراً إلى الدور الكبير الذي لا بد أن تعمله بعض مؤسسات المجتمع في التشجيع على الصناعة، والتي لا بد أن تبدأ من المدرسة بإيجاد ورش تشجع على الإبداع والابتكار والاقتصاد، وكذلك تشجيع الورش التي تعمل على الجانب البحثي والصناعي في المدارس منذ الصفوف الأولى في التعليم، التي تدعو المدارس لزيارتها للتعرف على هذا المجال، متأسفاً على أن المدارس الحكومية لا ترغب بمثل هذا النوع من الزيارات، حيث تفضل أخذ الطلاب إلى زيارة بعض المجمعات والأسواق والمطاعم، أما مراكز البحث في الجامعات والشركات فمغيبة عن الاهتمام. مراكز بحثية وأكد "د. الدوسري" على ضرورة أن يكون لدى الشباب فكرة عن المراكز البحثية التي تؤهلهم للدخول في الصناعة، كذلك من المهم وجود أماكن ومتاحف تعرض أهم الأمور الصناعية للجمهور من خلال التشجيع على الابتكار والإبداع الصناعي، على أن يُعرض ذلك بشكل مشوّق، مع التأكيد على أن المستقبل للصناعة، فالدخل الذي يحصل عليه الذي يعمل في مجال "البتروكيماويات" أو المجال الحيوي أو الزراعة والطاقة يكون أضعاف مرتب من يعمل في المجال الإداري، مبيناً أنه حينما يعلم الشباب أن في هذا المجال وضع مادي جيد فإنه سيقبل عليها دون تردد، متسائلاً: كيف تصل المعلومة الصحيحة لدى هؤلاء عن المجال الصناعي؟ من هنا يأتي دور الجامعات المختصة ومدينة الملك عبدالعزيز للتقنية وكليات التقنية ووزارة العمل، التي لا بد أن تؤدي دوراً كبيراً يبدأ من المدارس، عبر إقامة ورش صناعية، مع تصحيح فكرة أن العمل الصناعي يُعد عيباً، وهو الإرث الثقافي والاجتماعي الذي لا بد أن نتحرر منه. وأشار إلى أن الوضع الحالي للمعاهد متأخر جدا عما هو في بعض الدول التي تركز على الصناعة، مُشدداً على أهمية وجود دراسات اجتماعية تبحث عن أهم المجالات الصناعية التي تلائم الشباب في مجال الصناعة، موضحاً أن تجربة شركتي "أرامكو" و"سابك" تثبت أن في مجال التصنيع الحل، حيث كونت قاعدة تعليمية وتدريبية للشباب، مع دفعهم إلى تطوير العمل والذات حتى أبدعوا وأخذوا حقهم في الأجور التي حصلوا عليها، والتي تتناسب مع طموحاتهم. مسؤولية مشتركة وتحدث "د. فهد العنزي" -نائب رئيس اللجنة للشؤون الاقتصادية بمجلس الشورى- قائلاً: إن المسؤولية هنا مشتركة في الصورة الذهنية الموجودة عن المعاهد التقنية والمهنية، فهي في البداية امتداد لثقافة مجتمع لها جذور قديمة، مضيفاً أن الثورة التقنية التي حدثت في المملكة أدت إلى زيادة الاحتياج إلى الموظفين الإداريين، والتي تُعد ممارسة سلطوية، حيث يتسلم الشخص الإدارة ويبدأ في مهامه كمدير له الرأي ولديه القدرة على الأمر والنهي، وهي جزء يُعبر عن السلطة الإدارية بمفهومها العام، مبيناً أن هذا أدى إلى ترسيخ مفهوم أن من يعمل في المجال الإداري سيصل إلى منصب عال، ويتمكن في الوصول إلى أعلى المناصب، بل ويستطيع ممارسة صلاحيات واسعة، مبيناً أن الوظيفة الإدارية تعطي مكانة اجتماعية مهمة، مشيراً إلى أن ذلك لا ينطبق على الحرفيين الذين يعملون في المهن الصناعية، حيث ينظر لهم نظرة دونية، وليس لهم نصيب من ممارسة الأعمال الإدارية بمفهومها الخدمي، والذي من خلالها يستطيع الشخص أن يحتل مكانة اجتماعية، وذلك مسؤولية ثقافة التوظيف والبيئة الوظيفية التي تجعل من هؤلاء الأشخاص معزولين في أعمال حرفية ليس لهم احتكاك بالمجتمع، بل ولا تكون لهم فرص للترقيات، وإنما يبقى في حرفته وصناعته. دور سلبي وأوضح "د. العنزي" أن مزاحمة العمالة الوافدة لمثل هذه الحِرف أدت إلى عزوف الكثير من الشباب، على اعتبار أنها مهن تخص العمالة الوافدة، وأيضا أدت إلى أن من يعمل في هذه الحِرف سيدخل ضمن المقارنة مع هؤلاء العمالة الوافدة، مضيفاً أن ذلك مسؤولية الجهات التعليمية التي عليها تغيير هذا المفهوم، لترفع من المستوى الاجتماعي والوظيفي من خلال المهارات والحِرف التي كانت بداياتها بأيد سعودية لكن عزفوا عنها إلى الوظائف الحكومية التي كانت محط إغراء لهم، والتي تقدم لهم مسمى وظيفي جاذب يرفع من المكانة الاجتماعية، بخلاف الأعمال الحرفية الذي تعتمد على تقييم غير دقيق لها، فيكون هذا العامل في معزل عن المجتمع، مؤكداً على أن دور معاهد التقنية والمهنية مازال سلبياً، فلم تحم هذه الفئة أو منتجاتها وتسوق لها بشكل جيد أمام المجتمع، حتى على مستوى الفرص الوظيفية التي تحصل عليها، بل إنها تركتهم يزاحمون العامل الأجنبي في مجاله حتى ذهبت كفاءة العامل المواطن في مهب الريح، فلم تدعمهم بعد التخرج، مشيراً إلى أن هناك من تخرج من هذه المعاهد بشهادة فنية يحتاجها المجتمع، إلاّ أنه فضّل في نهاية المطاف أن يعمل في مجال إداري مكتبي، والسبب عدم دعم المؤسسات المهنية التي عملت على تخريجهم من خلال إيجاد فرص وظيفية جاذبة. مسميات جيدة وشدّد "د. العنزي" على أهمية الارتقاء بمثل هذه المهن من حيث نظرة المجتمع وتغيير ثقافة الأفراد، سواء من خلال النظرة الاقتصادية برفع المرتبات، أو إيجاد مسميات جيدة تعطي قيمة معنوية، على غرار بعض الدول الأوروبية، حيث تم العزوف عن بعض المهن إلى أن تم تغير مسمياتها الوظيفية، مضيفاً أن هناك الآن من يتفاخر بوجود أبنائهم كطهاة في المطاعم فيطلقون عليه "خبير طهي" أو "كبير الطاهين"، حتى أصبح يعادل الطبيب الجراحي، في حين مازال المجتمع ينظر إلى مثل هذه الوظيفة وكأنها خاصة بالعمالة الوافدة، وهذا خطأ يجب تغييره؛ لأن هذه الوظائف لها أخلاق ومعايير يجب تعميقها من خلال المؤسسات التي تخرج مثل هؤلاء الشباب، مؤكداً على أنه إذا ما تم وضع أخلاقيات المهن من حيث المسمى ووضعها المادي والزي الذي يلتزم به، فإنه سيؤدي ذلك إلى تغيير نظرة المجتمع، مشيراً إلى أنه ليس من مهمة المعاهد التعليم للشباب فقط، بل لا بد من رفع مستوى وأخلاقيات المهنة، وكذلك إيجاد معايير تدفع الآخرين لاحترام مثل هذه المهن. دعم الفكر وأوضح "د. صالح السلطان" -مختص في الاقتصاد النقدي والمالي- أن هناك تصوراً حول من يدخل المعاهد التقنية والمهنية بأنه غير ناجح في مجالات أخرى تعليمية، وهذه النظرة جاءت من النظرة السلبية للحرف الصناعية، كما أن من يدخل هذه المهن لا يرى التقدير الكبير لعمله، فيجد أنه من الأفضل أن يذهب إلى مجالات التوظيف الإدارية، مضيفاً أنه ليس واضحاً ما إذا كان لدى المعاهد التقنية قدرات تؤهلها لأن تغير من نظرة المجتمع، وأن تستوعب وتشجع مزيدا من الشباب، مبيناً أن مثل هذه النظرة تحتاج إلى تظافر الكثير من الجهود، ابتداء من الإعلام ثم المجتمع والمعاهد نفسها، وصولاً إلى مجال العمل الذي يجب أن يقدم دعما لمثل هؤلاء أكثر من الدعم الذي يقدمه للموظفين الآخرين، مُشدداً على أهمية إظهار جهود المعاهد، وكذلك يجب أن يكون للوزارات والمؤسسات الحكومية والأفراد وبعض الشركات دور في دعم مثل هذا الفكر نحو الصناعة، ذاكراً أنه لا بد أن يعاد النظر في طريقة سير التعليم طوال الأسبوع، وأن لا يعتمد على التعليم النظري، على أن يتم تخصيص يوم لورش صناعية يتم فيها استبدال "الثوب" بزي الصانع، بحيث يقدم لهم أدبيات هذا العمل ويؤدوا العمل في تلك الورش، مع تجهيز الورش بالإمكانات الجيدة، حتى تشجع على الصناعة والحرف اليدوية. وأكد على أن ذلك له أثر كبير على اقتصاد المملكة من حيث الاعتماد على الكوادر الوطنية في الحرف الصناعية، كذلك يساعد على وجود تنوع في المهن، لتسهم في حل البطالة الموجودة، كما أن في هذا المجال دخل مادي جيد قد يحسن من أوضاع الشباب. المدارس عليها مسؤولية إيجاد ورش تشجع على الإبداع والابتكار التدريب والتأهيل الصحيح يصنعان جيلا مُبدعا في مجال الصناعات د. عبدالعزيز الدوسري د. فهد العنزي د. صالح السلطان