لم أزل متعلقاً بثقافة الصحراء بعد أن أذكت شرارتها مؤسسة موتوكو كتاكورا لثقافة الصحراء، ذلك المجتمع الياباني الوديع خلقا وسلوكا، الحيوي حياة وإنتاجاً. كان الحفل المؤلف مما يزيد عن المائة والخمسين بروفسورا واعلاميا يتسم بالاصغاء والمتابعة، وهدوء يجسد حالة الصحراء في حال سكونها وارتدائها نور القمر. ترى هل اكتشفت كاتاكورا أسراراً للصحراء لم نكتشفها نحن المتعلقين بالروابي الخضراء والشلالات المتدفقة التي تكسو اليابان وكثيراً من بقاع العالم؟ نعم لقد وجدت كاتاكورا في الصحراء ما يشغل الباحث الحصيف، وما يجدر به دراسته وإشاعة نتائج الدراسة، ليدرك الجميع الأواصر التي تشد المجتمعات الإنسانية بعضها إلى بعض، فيتبادل الناس الأفكار والخبرات والتجارب، ويحدث التقارب وتبادل المنافع، ويسكن الأمن ربوع الشعوب، ويظهر أثر الإنسان أينما وجد في أداء رسالته لعمران الأرض، والتواصل مع معطياتها وتنميتها، وتوطيد العلاقات لتحقيق الترابط والتكامل. نحن العرب من يعنون بأهل الصحاري وهم أهل ثقافة الصحراء كما تطرح مؤسسة موتوكو، الصحراء قيمة ثقافية وإنسانية، ليس كما ينظر إليها آخرون بأنها قيمة مادية تصل المجتمعات بالبترول ومشتقاته، وتلبي الحاجات التجارية. وهذه المؤسسة تهدف أيضا إلى تجسيد العلاقات بين المجتمعين العربي والإسلامي وبخاصة السعودي، والمساهمة في إبراز خصائصهما وإبداعاتهما. أما ما أثارني أيضاً في ذلك المساء وردني إلى زمن مضى تبدل كثير من ملامحه وقيم مجتمعه نتيجة للتحولات ورياح التغيير التي هي لازمة تسيطر على الإنسان ويستجيب لندائها. كانت الفرقة الموسيقية تمثل حركة الموسيقيين المصريين، تستعجل انتهاء فترة الخطابة لتقدم ابداعها، كما كانت مشكلة من ثلاثة عازفين يابانيين (إيقاع وعود وكمان)، لم نتوقع ماذا سيعزفون وإذا بهم يشنفون الآذان بأنغام أغاني أم كلثوم، وكانت الدهشة أن الجميع يصغون إلى عزفهم، ويتفاعلون مع الموسيقى وحركات الموسيقيين وبخاصة عازف الايقاع الذي ينقل ما تعلمه في مصر من تنغيم وحركات كأنها جزء من المقطوعة الموسيقية كما يعتقد. كنا نظن أن هذه الفرقة جاءت لترحب بنا وإذا بالحضور يطرب لألحانهم أبلغ من طربنا، فكأن ذلك ترحيبا وتطريبا وإيحاء بأهمية الصحراء. تذكرت حينها العصر الذهبي في حياتنا لمصر أيام الإبداع الأصيل المتناغم مع قيم المجتمع وذوقه الرفيع، وكيف كانت مصر بما تتميز به من علماء وشعراء وساسة ومبدعين في كل الفنون وقادة ورجال هاجسهم رفعة مصر، ودأبهم تعميق الترابط فيما بينهم وانشغالهم بالانتاج ودفن المآسي والمشاكل بالتفاهم والاحترام المتبادل مما جعلها قبلة وراء كل هذه الموارد، وقدوة للمجتمعات المتطلعة لمستقبل كمصر، كانت الشفافية والإخلاص والبساطة معالم شخصية تتكسر عندها الخلافات وتنشأ الأهداف السامية، أنت مصري فأنت إذا عضو في البيت السعيد لا أنبذك ولا أشعر بالتميز عليك، وإنما أبحث عما يحفظ مصريتنا ويوحد موقفنا، لا نترك الخصام يعطل هذه المشاعر، بل الصلح قبل كل مشروع. مصر أكثر البلاد عدداً في السكان وتنوعاً في الانتاج، تحتل قلب الأمة العربية وأول من نادى بوحدة الأمة العربية وساهم في تنميتها وتبنى كل مشروع فيه نفع للمجموع. لقد افتتحت الفرقه عزفها: وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي وبناة الاهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عند التحدي وتذكرت حينها المواجع التي تعاني منها مصر اليوم ويستجيب لمعاناتها العالم أجمع. أين اختفى الحكماء والعقلاء الذين تعودنا منهم رأب الصدوع وتحويل الفرقة إلى وئام والخلاف إلى وفاق. لا نملك إلا أن نقول: أزمة وتعدي بإذن الله. وتوالت المعزوفات وفق مراحل تطور الغناء المصري بل العربي كلمات وموسيقى ممثلة المراحل الثقافية التي شهدها العالم العربي. كانت الكلمات للشاعر ابن النبيه المصري وألحان أبي العلاء محمد: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا ملك الفؤاد فما عسى أن يصنعا من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه حلواً فقد جهل المحبة وادعى واستمر شعر الفصحى سيد أغانيها كأراك عصي الدمع ونهج البردة ورباعيات الخيام إلى أن داهمها الشعر الغنائي الشعبي. لقد كان الناس لا يجدون أرقى من شعر الفصحى للتعبير عن مشاعرهم وموداتهم ومخاطبة من يحبون أشواقا واشفاقا وتذللاً جميلا لا يحلو في غير الغزل، ثم تحول الشعراء إلى الشعر الشعبي تبعاً للذوق المعاصر ولكنه شعر ملتزم بقيم الذوق الرفيع والخلق القويم، ولم تشهد أم كلثوم رداءة الكلمة وسوء التعبير الذي لا يستجيب لتلك الذائقة. عزفت الفرقة لحن اغنية «شفت بعيني» وتمنيت أن غنوها وفقا لانفعالهم الجميل: شفت بعينى ما حدش قلي شفت حليوة في البستان قوامه يشبه غصن البان ويجد في حياة أم كلثوم تعبير جديد ينبع من مودة خالصة ظل يداعب مشاعرها تلميحا وتصريحاً إنه رامي: الصب تفضحه عيونه وتنم عن وجد شؤونه إنا تكتمنا الهوى والداء أقتله دفينه إلى قوله: وبي الذي بك يا ترى سري وسرك من يصونه؟ هذه المعاناة من أحمد رامي مضفى عليها ثوب الحياء، وتعززها الكبرياء في قوله من أبيات أخرى: خايف يكون حبك ليّه شفقة عليّه وانت اللي في الدنيا ديّه ضَيْ عنيّه ويتساءل في أبيات أخرى: ليه تلوعيني وانت نور عيني إيه جرى بينك في الهوى وبيني؟ وتطول هذه القصة بينهما كان عائدها للمتلقي، وعذابها للشاعر وعزتها للملهمة التي مثلت هند صاحبة ابن أبي ربيعة حينما قال: ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما نجد واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد كانا يتجرعان دفاق الحب مرارة ونغماً، لو لم يخالج مشاعرها هذا الحب لما تفاعلت مع كلمات الغزل، ذلك التفاعل الذي دفع المحبين وعشاق الكلمة واللحن إلى المواظبة على حضور حفلات أم كلثوم الشهرية، ولما سهر آخرون بعيداً عن مصر يتطلعون إلى جديدها. ولم يبد رامي دفاعاً عن شعره حينما فهم أنها تردد: إنها هي من أشهرت رامي فقال: أخذت صوتك من روحي وحزن لحنك من نوحي وكل معنى ف ألفاظك من نظمي فيك يا روحي * * * انا وردة تذبل في ايديك وشمع متقاد حواليك وكل آمالي في حبك تكون عيني ف عينيك وكان يناشدها في كل أبيات يكتبها لها وتغنيها متخذا كثيرا من الوسائل والقرائن لشرح هواه: اذكريني كلما الفجر بدا ناشرا في الافق أعلام الضيا واذكريني كلما الطير شدا مرسلاً في الدوح ألحان الصفا واذكريني كلما الليل سجى باعثا في النفس ذكرى الأوفيا نعود إلى الفرقة اليابانية فقد تدرجت في متابعة دقيقة لتطوير الألحان في أغاني أم كلثوم مثل: جددت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح حرام عليك خليه غافل من اللى راح يا هل ترى قلبك مشتاق يحس لوعة قلبي عليه ويشعلل النار والاشواق اللي طفيتها انت بايديك دنا لو نسيت اللي كان وهان عليّه الهوان أقدر أجيب العمر من اين وارجع العهد الماضي أيام ما كنا احنا الاثنين انت ظالمني وانا راضي انت النعيم والهنا انت العذاب والضنى والعمر إيه غير دول ان فات على حبنا سنة وراها سنة حبك شباب على طول كانت ليلة من أجمل الليالي في طوكيو، أغرتنا بكنوز الصحراء، وأكدت لنا أن الكلمة والموسيقى رسولا سلام، وتقريب أوطان... والحديث يطول.. والإنسان هو الإنسان أينما كان.