يُدرك الرواة في كل زمان أن جاذبية "السالفة" أو القصة ضرورية جداً لأسر لُب السامع وترسيخ القصيدة في ذهنه، ويدركون من خلال مُمارستهم للرواية بشكل مُتواصل بأن لدى المُستمع شغفاً كبيراً بالمغامرات لاسيما تلك المُتعلقة بالعشق والغرام، لذلك يدفعهم هذا الإدراك لإطلاق خيالاتهم وتوظيف مهارتهم في نسج قصص يختلط فيها الواقع بالخيال مع قدرتها الفائقة على جذب المتلقي الذي يسعى للبحث عن كل ما يشبع رغبته ويوافق شغفه ويُسلّم بمضمونه بكل سهولة وابتهاج. الباحثون وحدهم هم الذين لا تعجبهم أساليب الخداع التي يلجأ إليها الرواة، وهم من يسعون لكشف تلك الأساليب ومساعدتنا على رؤية ما يعرضونه لنا بوضوح وواقعية، ومن العجيب أن نجد بأن القصص المختلقة في سير شعرائنا الشعبيين الكبار هي التي تحظى بالنسبة الأكبر من الإعجاب والتداول بين الناس، ومن تلك القصص على سبيل المثال لا الحصر قصة الفتاة الجميلة التي خبأها أبوها في مغارة خوفاً عليها من الافتتان بجمال الشاعر محسن الهزاني (ت 1240 ه)، ويُعلق الباحث الأستاذ إبراهيم الخالدي على تلك القصة في مُقدمة (ديوان أمير الشعر الغزلي محسن الهزاني) قائلاً: "ورغم جمالية القصة إلا أن تصديقها بل وحتى أخذها على محمل الجد أمر لا يُمكن أن يقع فيه القارئ العادي فما بالك بالباحث المُتعقل"، ويُرجع الخالدي جسارة الرواة على اختلاق مثل هذه القصة في سيرة الهزاني لعوامل داخلية مُرتبطة بشخصية الشاعر، فكما "يبدو من شعر الهزاني فإنه كان وسيماً حلو اللسان معجباً بنفسه واثقاً من قدرته على الاستحواذ على قلوب الجميلات، وهذه "الدنجوانية" صارت مضرباً للأمثال ومرتعاً خصباً للخيالات في أذهان الرواة". ويؤكد الباحث الأستاذ عبدالعزيز بن حمد القاضي في مقدمة تحقيقه المُميز لديوان (شاعر نجد الكبير محمد القاضي) أن تخليص سيرة الشاعر مما شابها "من أغلاط وخيالات الرواة" هو أحد أهداف الدراسة التي استهل بها الديوان، ويُعقّب على القصة التي يذكر معظم الرواة أنها هي الباعث لنظم قصيدة القاضي الشهيرة في القهوة قائلاً: "والقصة بهذه التفاصيل تبدو لي غير صحيحة، لتنافيها مع العقل والأخلاق، فهي تقدم صورة مغايرة لطبيعة عادات وتقاليد مجتمع الشاعر قديماً وحديثاً، وصورة مغايرة لأخلاق الشاعر وشخصيته"، وقد حاول القاضي تلمس الأعذار لبعض الرواة الذين نقلوا هذه القصة قبله دون إبداء موقف رافض أو ناقد لها كالشيخ عبدالله بن خميس والراوية عبدالرحمن الربيعي رحمهما الله. ما يُميز قِلة من الباحثين المُبدعين كالخالدي والقاضي وغيرهما هو عدم الاستسلام لحيل الرواة أو التسليم التام بجميع ما نقلوه لنا أو ما سلّم به باحثون سابقون لهم وقعوا تحت تأثير سحر الرواة الذي كثيراً ما نقع تحت تأثيره، وإنما حرصوا بما امتلكوه من وعي وثقافة وحس نقدي على تنقيح تلك الروايات ومساعدتنا على تمييز الصحيح منها دون غيره. أخيراً يقول المبدع الحميدي الحربي: ياللي رمتني في يديك المقادير ليتك رحمت أو ليتها ما رمتني