قال أبو علي وهو يربت على كتف ابنه، ويتحسسه: * أريد أن أزوجك يا علي. * لا.. ليس الآن. * أريد أن أرى أبناءك قبل أن أموت. * لا تزال فتياً يا أبي، سوف ترى أحفادي إن شاء الله. يضحك أبو علي ضحكة فيها مزيد من الخوف والرجاء ويضع يده على رأس عليّ، يتحسسه ثم يدنو منه كأنه يريد أن يشمه ويحتضنه. * علي شاب نشط في مقتبل العمر، هو يد أبيه. هو عينا أبيه.. هو كل شيء في حياة أبيه.. يقضي حوائج أهله.. ينقل إخوته إلى المدرسة في سيارته ويعيدهم إلى المنزل. يرافق أباه إلى السوق، وإلى زيارات الأقارب والأصدقاء، يتولى كل شؤون أبيه.. يبيع، يشتري، يراجع البنك، يحاسب العمال. * كل الناس تقول عن علي: ما شاء الله.. تبارك الله: هذا الولد نادر في عصرنا. علي صبوح الوجه.. أنيس المعشر.. مهذب الجلسة والرفقة. طيب القلب.. كريم النفس والسجايا. يقبّل رأس أمه كلما أراد الخروج.. * ينزل أبو علي من سيارة علي.. يقول لعلي: دعني أصلي السنّة وأتهيأ لصلاة الظهر. حينما نزل أبو علي. وسار خطوتين التفت كأنه يريد أن يقول شيئاً لعلي، ولكن علياً كان ينطلق بسيارته إلى المدرسة ليحمل أخوته ليعود بهم.. ثم يصلي مع أبيه. الشمس مشرقة والطريق مزدحمة بالسيارات التي تكاد تشتعل من الحرارة، أنفس الناس تكاد تزهق، يقف علي أمام الإشارة الحمراء بينما الآخرون يتجاوزونها دونما توقف. وحين تضيء الإشارة الخضراء ينطلق في هدوء ورأسه لا يزال مليئاً بالهواجس والأفكار والأماني. يفكر في كلام أبيه.. الزواج والإنجاب والحياة السعيدة: عندما أرى أبي سوف أخبره بموافقتي على الزواج. يبتسم في داخله وتظهر له أحلام مطرزة جميلة. وكانت السيارة قد قطعت أربعة أمتار أو خمسة حين فاجأته شاحنة ضخمة محملة بالحجارة.. وفي لمحة البرق غابت سيارة علي تحت عجلات الناقلة. كانت سيارات الإسعاف تولول وتعول أمام بيت أبي علي. وعند المسجد تجمع الناس حول أبي علي.. وكانت ساعة علي في معصمه لا تزال تدق والهاتف النقال لا يزال في جيبه يستقبل المكالمات. قالوا لا يغسّل لأن جسده متهتك ومتمزق. * تجمع الناس في المقبرة وحملوا علياً على أكتافهم وأبا علي بين أيديهم وأجلسوه فوق فوهة القبر. راح يهيل التراب على جسد حبيبه علي.. تتحرك يداه ويدق قلبه وتدمع عيناه.. ولكنه كان في ذهول أشد من العذاب، أشد من الجحيم، أشد من الموت..