كان العرب في جاهليتهم، ولا يزال البعض بعد إسلامهم يتفاخرون بالأنساب، وهم أشد الناس اعتدادًا بها فلا يتزوجون إلا ممن يساويهم، ولا يزوجون إلا من كان في منزلتهم، حتى إنهم لا ينازلون في الحروب إلا من يساوونهم منزلة عمومة وخؤولة. أما الإسلام بعظمته وكماله وحكمته فله شواهد في المفاخرة لكنها ليست بالأجداد ولأعمام والأخوال بل بالتقوى، قال تعالى: “أفمن كان مؤمنًا كمن كان كافرًا لا يستوون”. وقال سبحانه "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". وقال المصطفي -صلى الله عليه وسلم-: "إن نبيكم واحد وإن أباكم واحد، وإنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى". ومما يروى من القصص في هذا أن جماعة من العرب ممن يعتدون بأنسابهم أرادوا أن يقللوا من شأن مرافق لهم يرونه أقل منهم نسبًا فراحوا يفاخرون بآبائهم، ثم سألوه عن حسبه، فقال لهم مفاخرًا: أنا ابن من سجدت له الملائكة وكفى، فكأن أعقلهم بعد إجابته. ولهذا وذاك أرى لا بأس من تعلم الأنساب إذا كان الهدف من تعلمها اتباع قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم" ولئلا ينتسب إنسان لغير عشيرته أو ينتسب لغير أبيه تحقيقًا لقوله سبحانه تعالى: "ادعوهم لآبائهم" ولقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه". ولا يعني هذا أن لاَ يعرف الإنسان نسبه ليصل رحمه، وإذا كان من الطبيعي عدم اتصال جميع الفروع إلى أصولها العليا على من انقطع نسبه، ويريد أن أن يعرف أن آدم أبٌ لجميع بنيه بدون تفريق بين لون ولون أو جنسٍ وجنس، وأن الله العلي القدير الخافض الرافع، قال:"واخفض جناحك للمؤمنين" وقال: سبحانه "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًَّا ولا فسادًا والعاقبة للمتقين". وإن سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم، قال: "لا ترفعوني فوق قدري فتقولوا فيَّ ما قالت النصارى في المسيح، فإن الله عز وجل اتَّخذني عبدًا قبل أن يتَّخذني رسولا". وقيل: أتاه رجل فكلمه فأخذته رعدة فقال -صلى الله عليه وسلم- له: "هوِّن عليك فإني لست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد". وقد كان سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرقع ثوبه ويخسف نعله ولم يكن متكبرًا ولا متجبرًا، وكان أشدَّ الناس حياءً وأكثرهم تواضعًا، ولا أجلَّ ولا أبلغ من وصف الله تعالى بقوله: "وإنك لعلى خلقٍ عظيم". وأن يعرف أن لكلِّ أمةٍ عظماء كما لكل قبيلة عظماء ولكل أسرة عظماء وهم من تنسب لهم السيادة والشرف، وعلى هذا المفهوم نستطيع أن نقول إنَّ من قحطان سادة وأشراف كما من عدنان سادة وأشراف، وكذلك من الأعاجم سادة وأشراف، لكن السيادة والشرف في الجاهلية تختلف عن السيادة والشرف في الإسلام. ولأن الذين يتصفون بصفات السيادة والشرف قليلون في كلِّ زمانٍ ومكان فهم في زمننا أشدُّ ندرةً أو قلةً ألم يقل الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ويقول الراوي: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ وقد أكد ندرة الشرف والسيادة في الأزمان والأماكن جميعًا حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما إذْ قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة". وإذا كان للعلماء اختلاف في معنى الحديث، فما ذهب إليه أكثرهم هو أن المُرضي الأحوال من الناس والكامل الصفات قليل الوجود كالنجيب من الإبل القوي على التَّحمل، فهو نادرٌ بينها، ومعنى ذلك أن أكثر الناس أهل نقص، وأنَّ أهل الفضل عددٌ قليلٌ جدًا، فهم بمنزلة الراحلة في الحمولة. فهل يعي مدعو الشرف والسيادة هذا المعنى؟ ليتهم. فلو وعى العرب والمسلمون جميعًا ما يخطط أعداؤهم في خفاء لتجنبوا كل ما يثير الفرقة ويفرض التشرذم. وعلى من أراد أن يعرف أصوله أن يرجع إلى الأكبر سنًَّا الأرجح عقلًا الأكثر معرفةً، فبمثل هذا يستطيع أن يصل إلى حقيقة نسبه، وذلك لأن من المتعارف عليه هو أن تناقل معلومة النسب يكون متوارثًا من جيلٍ لجيل. أما إذا لم يجد حقيقة موَّثَّقة من قبل الكبراء من قومه وكان باحثًا يريد الحقيقة فلا بد أن يعرف من أين جاءت أصوله ومتى؟ ليرجع للمكان بمعرفة الزمان فيوصل فرعه إلى أصله المفقود أو المنقطع بتقلبات الحياة وغوائلها وظروف العيش وقسوته. ولأن اسم الأصل الواحد متعدِّدٌ -غالبًا- أرى أن يتجنب الباحث الوقوع في شراك تشابه الأسماء وذلك بألا يتسرع بالانتساب إلى أصل توافق مع أصله اسمًا إلا بعد توثيق ذلك بما يوجب الانتساب الصحيح من وثائق صادقة واعتراف من أصله المعترف به نزيه، وما ذلك إلا لخشية الانتساب إلى غير أصله بغير علمٍ قد يجعله موضع استهزاء وسخرية أو بعلمٍ لمطمع أو قصد فيصبح هدفًا لأصابع السِّخرية والاستهزاء، ويجلب بسخفه مقت الله له. فإذا أجمع علماء المسلمين على جواز الرجوع إلى الحمض النووي في تحديد الأصول أرى أنه إذا انقطع نسب من يريد وصله- وهو متأكد بنسبة كبيرة في رجوعه إلى أصلٍ ما- أرى أن في الرجوع للحمض النووي تأكيدًا لدعواه إما إثباتا وإما نفيًا، فإن أظهرت نتيجة الفحص ما يثبت دعواه فيلجزم بصدق نسبه بدون تردد، وإن ظهرت النتيجة محالفة فعليه أن يبقى على ما هو عليه إذا لم يجد معارضًا نافيًا لنسبه بحجج مقنعة، أما إذا نفى معارض نسبه فمن البديهي أن يعرف الرجل جده الثاني الذي يجعل اسمه رباعيًا فليكتف به، وليتوكل على الذي خلق كلَّ الناس من طين. ولاحظتُ كثرة المواقع وكثرة النقابات المهتمة بتدوين الأنساب ونشرها، وكما هي مهتمة بإضافة أو إثبات أنساب الأقوام ونفيها مهتمة -أيضا- بنشر ما يقال من قدح في نسب قوم ليطلع عليه القاصي والداني أو مدح قوم ورفعهم ليخفضوا آخرين ليطلع عليه القاصي والداني، وذلك بتخصيص مساحات للفارغين ليكتبوا فيها ما شاءوا مدحًا وذمًا وإثباتًا ونفيًا بمعلومات عشوائية ومستندات قد لا تثبت صحتها، كما قد يشككون في مستندات أو وثائق إثبات نسب صحيحة غير مبالين بعواقب ذلك لذلك أرجو من كلِّ لبيبٍ يبحث لإيصال فرعه بأصله أو لمعرفة أصله الأعلى ألاّ ينخدع بهتاف نصابٍ يغريه بنسب لا صلة له به، وألا يذهب إلا لمن يثق فيهم من النسابة أو من لهم باع طويل في هذا الشأن. ولقد عرَّفنا التأريخ بأماكن القحطانيين الأصلية، ومنه عرفْنا أين انتقل معظمهم، كما عرفنا من التأريخ أماكن العدنانيين الأصلية، وبهذه المعرفة يستطيع العاقل أن يتخذ الأسلوب الأمثل للوصول إلى غايته. وما الغريب الملفت للنظر ألا أن يذهب غسانيٌ من حوران أو أرض بلقيس أو تميمي من نجد وقرشي من مكة وثقفي من الطائف أو همداني أو أزدي من جنوب المملكة السعودية ليبحث عن نسبه في أقصى المغرب أو في أقصى المشرق! وأنا حين أقول هذا لا أنكر أن الفتوحات الإسلامية واتساع البلاد الإسلامية كانت سببًا في تفرع كثير من الأصول العربية في الأراضي -التي شرفت بالفتوح الإسلامية وعدالتها لتكون لهم سكنًا ولا زالت فرعوهم هناك لكنني أصر فأقول أن الأصل يبقى أصلًا ويبقى الفرع بالمكان تابعًا للأصل. وأتوجه في خاتمة هذا المقال برجاء إلى القائمين على الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية وهو أن يتوسعوا في بحثهم وتدوينهم وألا يقتصروا على ذرية الحسن والحسين بل يلحقوا بهم الأنساب الصحيحة ممن أجمع أكثر أهل العلم أنهم آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم ذرية أبناء علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيضيفوا ذرية العباس بن علي وذرية محمد بن الحنفية وآل العباس بن عبدالمطلب والحارث بن عبدالمطلب وآل عقيل بن أبي طالب وآل جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعًا، ثم يتوسعوا إلى تدوين بني هاشم جميعًا، ثم قريش، ثم جميع القبائل العربية سواءً القحطانية والعدنانية. وأن تكون ساحات منتدياتهم خالية من الشتائم غير المباشرة والقدح في أنساب الآخرين، وإذا تجلى لهم نسبٌ ليس صحيحًا لقوم مهما يكونوا عليهم بمعالجة الموضوع بالمكاشفة مع ذوي الألباب من مدعي النسب بالتحاور والحجج المقنعة التي تبطل نسب الأدعياء، بعيدًا عن النشر مراعاةً للأسوياء منهم؛ لعلهم أن يرجعوا عن الشك باليقين، فينال القائمون على الرابطة ثواب الله تعالى، ثم مودة عباده.