منذ أن قرأتُ يوما "الخيام السود" للضابط الالماني كارل الرضوان، الذي عاش لأكثر من عامين مع قبيلة الرولة في شمال الجزيرة العربية، وأنا أجد هذا الشغف في تتبع أولئك الرحالة المغامرين والمستكشفين للجزيرة العربية في وقت لم تكن لتطأها قدم غريب. ومع التقدير للدوافع السياسية التي حفزت اولئك الرحالة الرواد للقيام برحلاتهم، او بالأحرى مغامراتهم في هذه المنطقة المجهولة للعالم آنذاك.. وقد تعرض بعضهم لمخاطر وصلت إلى حد دفع ارواحهم ثمنا لتلك المغامرات.. إلا أن شغف الاكتشاف وريادة الاكتشاف ربما كانا من أهم الدوافع لمغامراتهم ورحلاتهم الاستكشافية، بالإضافة لاهتمامات الآثاريين منهم، وما حجر تيماء الموجود اليوم في متحف اللوفر إلا أحد الاكتشافات المهمة للتعرف على النقوش الكتابية، التي أدت إلى حل رموز العديد من الابجديات الحميرية والآرامية والنبطية وغيرها.. في بداية حركة النهضة الاوروبية أخذت شبه الجزيرة العربية تثير أشواق الأوروبيين لاكتشاف مجتمعاتها، والتعرف على جغرافيتها، وآثارها، والمجموعات البشرية المستوطنة فيها. ولم تقف الظروف الطبيعية التي تتصف بها الجزيرة العربية وكذلك الحالة الأمنية عائقا دون إثارة روح المغامرة والمجازفة لارتياد مجاهل بحار من الصحراء للوصول الى أقصى ما يمكن الوصول إليه. إنه شغف البحث والاكتشاف، كقيمة يؤمن بها اولئك الرحالة، بالإضافة الى الدعم المعنوي والمادي من قوى تتطلع إلى معرفة المزيد عن المنطقة. الارتياد الاوروبي لشبه الجزيرة العربية وإن كان قد بدأ منذ السنوات الأولى من القرن السادس عشر الميلادي، فإنه تميز آنذاك باتخاذه شكلا فرديا، غير انه بتطور المعرفة أخذت الجزيرة العربية تجذب إليها الأنظار، وغدت بصحرائها الشاسعة التي تثير روح المغامرة بمثابة إلهام للأوروبيين، خاصة منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ حيث لم تعد تمثل في اذهانهم كثبانا رملية تتهادى عليها الابل، بل بدت فضاء شاسعا يتيح انطلاق الفكر والخيال، وبصدد ذلك ظهرت العديد من الدراسات والدوريات التي تحفز الباحثين والرحالين والمغامرين على اختراق هذا العالم المنسي أو المجهول. تعد رحلة "جورج والين" الاستكشافية من أوائل الرحلات إلى قلب الجزيرة العربية. فقد وصل بمهمة استطلاعية إلى جبل شمر. وتبع والين الرحالة الايطالي "كارلو جوارماني".. إلا ان رحلتيهما لم تحققا الذيوع والشهرة.. كما حققتها رحلة "وليم جيفورد بالجريف". ويعد كتابه الذي سجل فيه وقائع رحلاته واكتشافاته أعظم كتاب وضع عن وسط الجزيرة العربية.. ولقد تبع بالجريف العديد من الرحالة الاوروبيين كان أبرزهم "شارلز داوتي" 1879 الذي وصل القصيم في محطته قبل الأخيرة، واقام فترة في مدينة عنيزة.. وكذلك "ولفرد بلنت" وزوجته عام 1880، اللذان حرصا على التحقق من روايات بالجريف التي اثيرت حولها العديد من التساؤلات. وفي اطار التنافس الاستعماري البريطاني - الفرنسي جاءت رحلة "لويس بلي" المقيم البريطاني السياسي في الخليج عام 1865. ويعد كتاب اختراق الجزيرة العربية لمؤلفه "ديفيد هوجارث"، بمثابة سجل يكاد يكون شاملا لتطور معرفة الغرب بشبه الجزيرة العربية عبر أربعة قرون من المغامرة وشغف الاكتشاف وبدوافع بعضها علمي وآخر سياسي وتجاري. لا يمكن فصل اهتمامات هوجارث التاريخية عن وظيفته السياسية، فهو الذي قضى سنوات الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 في القاهرة بصفته أحد رؤساء المكتب العربي وممثلا خاصا للمندوب السامي البريطاني في مصر، وكان أحد المخططين لما عرف فيما بعد بالثورة العربية الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى. وصل الرحالة والمستكشفون الاوروبيون الأوائل إلى قلب الجزيرة العربية (بالجريف وداوتي وهوبر..) من الناحية الشمالية. وكلهم عبروا رمال صحراء النفود. ذلك الحاجز المرعب الذي يحرس بوابات الاقتراب من الأرض أو الدخول إليها - كما يصفه هوجارث - ومعظم أولئك الرحالة أقاموا لفترة في جبل شمر قبل ان يتحركوا باتجاه الجنوب والجنوب الشرقي أو الغربي. قُدم بالجريف إلى الامبراطور نابليون الثالث على أنه مبعوث محتمل إلى المجتمعات العربية، وعلى هذا الاساس عاد إلى دمشق في عام 1862، وبصحبة أحد المعلمين من كلية زحلة اليسوعية ويدعى بركات، انتقلا للجليل، ومنها إلى غزة ثم إلى معان.. ثم يمما شطر كل من الجوفوحائل. يقول هوجارث: "إن مهمة الرجلين كانت دينية إلى حد ما فيما يتصل بمصالح الكلية اليسوعية في الشرق في ذلك الوقت... إلا أن هذه المهمة مرتبطة أكثر بمصير ومصالح فرنسا السياسية في ذلك الوقت". دارت شكوك حول دقة ملاحظات بالجريف عن منطقة نجد. وانها كانت تتضمن الكثير من المبالغات. إلا ان الرحالة والمستكشفين الذين جاءوا بعده أكدوا دقة ملاحظاته وخاصة ما يتعلق بالشأن الاجتماعي، ولم يشككوا في مصداقية رحلته. فبارون" و"نولد" فندا هذا التقول، وأكدا صحة ما كتبه بالجريف. وهذا داوتي يقول في خطاب أرسله لهوجارث: " انه لا يشك ولو للحظة واحدة بما قام به من سبقه (بالجريف) وانه نفسه فهم ملاحظات بعينها وجهت إليه وهو في حائل وكانت تشير الى بالجريف. ويضيف داوتي " قال لي "الخنيني" في عنيزة شيئا من هذا القبيل: كيف يمكن ان تتجول في أرض بلا قانون وتطلق على نفسك صراحة وعلانية اسم نصراني وانجليزي، إن ذلك الرجل - ويقصد بالجريف- لم يفعل ذلك اثناء ترحاله في هذه البلاد". في كتاب هوجارث، الذي ترجمه محمد حسن، لم يكن المترجم متأكدا من ترجمة اسم صديق داوتي، هل اسمه الكنيني او الخنيني، ولذا وضع كلا الاحتمالين. أما هذا الرجل الذي تعرف عليه داوتي بعنيزة وربطتهما علاقة صداقة جيدة تخللتها حوارات كثيرة فهو عبدالله حمد الخنيني، وهو من تجار عنيزة الذين تمتد تجارتهم الى البصرة، وبومباي بالهند حيث كان ممن يتاجرون بالخيل العربية الاصيلة. لقد ارتبط داوتي خلال تلك الاسابيع التي قضاها بعنيزة بثلاث صداقات مميزة. إحداها مع عبدالله الخنيني والاخرى مع عبدالله عبدالرحمن البسام، وهو من كبار تجار عنيزة، ومع أمير عنيزة آنذاك زامل السليم. وقد نقل داوتي مشاهداته للحياة في عنيزة بطريقة يندر ان تجدها في مصدر آخر. اللافت فيما ذكره داوتي، أنه وجد في منزلي عبدالله الخنيني وعبدالله البسام مجموعة من الكتب.. تضم بالإضافة للكتب الدينية معاجم وكتبا في الجغرافيا والتاريخ.. منها موسوعة بطرس البستاني - التي صدرت عام 1875 - ولاحظ انهما على اطلاع على السياسة الخارجية والحروب، واخبار الحرب العثمانية - الروسية في ذلك الوقت، وذلك عن طريق جريدة عربية تصلهما متأخرة من اسطنبول عن طريق بغداد. وهما يعرفان عن طريقها الدول الاوروبية ومواقفها من الدولة العثمانية.. كما يعرفان اسم رئيس حكومة بريطانيا والملكة فيكتوريا.. وكان يجري في دواوين عائلة البسام مناقشة كل من بالمرستون وبسمارك ودزرائيلي.. لنتذكر أن هذا كان في عام 1878.. لقد احتفظ لنا داوتي بصورة مهمة متعددة الابعاد عن حياة مدينة في قلب نجد قبل مئة وخمسة وثلاثين عاما..