لم تستطع "سلمى" ذات العشرين ربيعاً أن تعبّر لوالديها وقت زفافها عن كل ما يخالج شعورها عند الرحيل، إلاّ برسالةٍ حملت في طياتها ما جاشت به نفسها، واختارت قلمها لينوب عنها في تقديم مشاعر الشكر، والعرفان، والوفاء، والحب، التي عجز لسانها الضعيف عن حملها، وأودعتها تحت وسادة والدتها ليلة الرحيل؛ لأنّها تعلم يقيناً أنّ اشتمام أكمام والدتها هي كل ما تقوى عليه إن همّت بالرحيل نحو حياتها الجديدة، فكتبت لهم: "والدتي.. كم أرقتني كلمات الوداع، وأقضّت مضجعي، وأسدلت ستار الحزن فوق نياط قلبي، أيتها الحنونة، ها أنا اليوم قد أصبحت تلك الفتاة التي حلمتِ، وها أنا أرحل عن بيتنا الصغير الدافئ الذي نقشت على جدرانه آيات الحزن والفرح، وأنسلخ رغماً عني من صورتي الطفولية التي أرجو أن تبقى ذكراها في حنايا بيتي القديم أبد الدهر.. أمي لا أقوى وقلمي على حمل ما يختلجني في هذه الساعة من مشاعر فقدٍ قد تعصف بي في الغد القريب، أمي.. أعذريني على كل لحظة لم أكن فيها كما تريدين، واعفِ عني بقلبك الدافئ كل زلاتي السابقة، إنّ الوقوف أمامك عزيزتي- يسلبني كل كلمات الوداع التي حضرتها من أجلك، فلا القلب يقوى ولا العين تهدأ، فحينئذٍ اعلمي أن دموع فراقك أبلغ لغة وداع، وعن ألف كلمة حب وعرفان، ولا أنسى والدي ذا القلب الكبير الواسع، فدفء يده لا زلت أشعر به فوق خدي.. لن أنساه ما حييت، ولن أنسى كل اللحظات الدافئة التي عشتها في كنفه.. والداي، إنّ رسالتي هذه هي ما قويت عليه، والتي أتمنى أن تسعفني وقت الرحيل، حين تخنقني عبرة الوداع، ولحظة البعد، فاقرآها بقلبيكما اللذين عهدتهما طيلة الطفولة الماضية، وبعيونكما التي أعشقها للأبد.. ابنتكم". د. عدنان عبدرب الرضا سنة الحياة هذه سنة الحياة، حين تُعلن انفصال الابن أو الابنة عن كنف الوالدين، وخوض تجربة جديدة، وفصلٍ مختلف من فصول رواية الحياة، وتتباين الآراء بين أرباب الأسر والأمهات، وكذلك الأبناء حديثي الزواج عن الحلول المناسبة لتخفيف وطأة الفقد والبعد التي تنتاب الوالدين، رغم صراعهما وكتمان ذلك، ولا خلاف في سعادتهما الغامرة بنجاح ابنهم أو بنتهم في مراحل الحياة والدخول للحياة الزوجية، امتثالاً للسنن الإلهية الجارية في خلقه -سبحانه وتعالى-. حلول نفسية ورأت "نورة اليزيد" -متزوجة- أنّ المرحلة التي تخرج فيها الفتاة أو الابن من حضن الوالدين إلى بيت الزوجية هي من أكثر الأوقات حساسية، فابتعادهما بعد سنين طويلة من العشرة ليس بالأمر السهل، ولابد من بحث الحلول المناسبة التي تعالج هذه الفترة النفسية الحساسة، موضحةً أنّ الأشهر الأولى من زواج الفتاة أو الابن واستقلاله عن منزل والديه هي الفترة النفسية الحرجة التي يجب مراعاتها في هذا الابن، على خلاف الوالدين الذين يظلان فترة طويلة يعانيان آثار الفقد بعد غياب أحد أفراد الأسرة، وهما الأحقان ببحث الحلول عن طريق المختصين الذين قد يستطيعون إيجاد الحلول النفسية المناسبة لهذه المرحلة. تبادل الزيارات وذكر "فهد أحمد" -رب أسرة- أنّه من المسلّم به بعد قضاء السنين الطويلة في تربية الأبناء، واحتضانهم في منزل والدهم، أن يفارقوه وقت زواجهم، والبحث عن الاستقلالية، ولا يخفى على أحد شعور الوالدين بحرقة الفقد وابتعاد أبنائهم عنهما، وانتقالهم إلى حياتهم الجديدة، لا سيمّا بعد تلك الفترة الطويلة التي كانوا يملؤون فيها أركان المنزل باللعب، والضحك، وممارسة حياتهم الطبيعية، مبيّناً أنّ تجاوز هذه المرحلة النفسية الحرجة يتطلب المبادرة من الأبناء في دفن هذا الشعور، وعدم ترك أي مجال لحدوثه؛ من خلال تبادل الزيارات العائلية التي تعقب فترة الزواج، ومحاولة القرب من وجدان الوالدين أكثر، وسبر أغوار مشاعرهما؛ كي يشعروا بقرب أبنائهم وأنهم ليسوا بعيدين عقب انتقالهم للحياة الجديدة. وأضاف أنّ مراعاة مشاعر الوالدين من قبل الأبناء واجب ديني وملزم للأبناء، وكذلك تفقدهم في هذه المرحلة الصعبة عليهم، مستدركاً: "ابتعاد الأبناء عن ناظري الوالدين ليس بالأمر السهل عليهم، فهم آمالهم التي رسموها خلال صغرهم، ومن المهم التواصل وتعاهد الآباء بشكل مستمر؛ كي لا يحسوا بفقدهم أو ابتعادهم". د. مهدي الطاهر ملاطفة وإحسان ووصف "د.عدنان عبد رب الرضا" -خبير تربوي- هذه الحالة ب"القلق من الانفصال"، وهو الشعور الذي يعتري الوالدين حال زواج أبنائهم وكذلك الابن أو الفتاة المتزوجة، ويمكن تجاوز هذه المرحلة بإيجابية عبر عدد من الخطوات، منها: مراعاة الأبناء لهذا الجانب النفسي المهم لدى الوالدين وخفض الجناحين لهما، وكذلك على سبيل المثال ملاطفة زوجة الابن أم الزوج والإحسان إليها، وإشعارها بأن تعبها طوال السنين الماضية في تربية ولدها قد أنتج زوجاً مثالياً حسن الأخلاق؛ مما يعزز من الحالة النفسية لدى الأم ويشعرها بالثقة، بالإضافة إلى كلمات الشكر والعرفان والتقدير الدائمة على مسمع الوالدين على تعبهما وسهرهما على تربيتهم ودفعهم لهم لدروب النجاح والتميز، فلها الأثر النفسي الكبير على الوالدين ويشعرهم بأهمية ما قدموه خلال السنوات الماضية وأنّه محل التقدير. عشنا معاً صغاراً وكبرت أحلامنا وفي لحظة الرحيل تبقى دعوات الوالدين أقوى سلاح الصبر امتداد الأسرة وأوضح "د.عبد رب الرضا" أنّ الأمر يحتاج إلى تهيئة مسبقة؛ إذ أنّ ابتعاد الأبناء عن والديهم ليس بالأمر الهيّن، خصوصاً الابن الأكبر؛ كونه التجربة الأولى لهما، فهو الشخص الذي عقدوا عليه أحلام كبرهم وعجزهم، حيث انّ ارتباطه بامرأة جديدة وانتقاله لمنزل آخر للعيش فيه، يولّد لديهم إحساساً يشعرهم باختطاف هذه المرأة الجديدة لولدهم واستحواذها عليه، مشيراً إلى أنّ ذلك تبين من خلال حالات عدم الوفاق والمشاكل التي تحدث غالباً بين الأم وزوجة الابن الأكبر؛ بدافع الغيرة الذي يتملك الأم على ولدها تجاه هذه الزوجة. وأضاف انّ مرحلة التعود لدى الوالدين على ابتعاد الأبناء بسبب زواجهم وانتقالهم لحياة جديدة مستقلة تأتي عقب زواج الولد أو الفتاة الأكبر، وما كان بعدهم من الأخوة فإن الأمر سهل عليهم تقبله، منوهاً بأنّ نظرة الوالدين لقضية زواج أبنائهم هي التي تحدد مسار حالتهم النفسية عقب خروجهم من المنزل، فإن اعتبروا هذه الأسرة الجديدة التي كوّنها الابن أو الفتاة امتدادا للأسرة الأصل وفرعا لهما، تحسنّ شعورهما إلى حدٍ كبير وابتعدوا عن شعور الألم والبعد. مجريات الحياة وقال "د.مهدي الطاهر" - أستاذ علم النفس بكلية التربية في جامعة الدمام- إنّ أفراد المجتمع بشكل عام يؤدون أدوارا اجتماعية مختلفة بحسب أعمارهم، ومرور الابن والفتاة بمرحلة الزواج واستقلالهما عن منزل الوالدين أحد الأدوار في هذه الحياة، فمن المسلّم به لدى الوالدين المرور بهذه المرحلة العمرية، فالأم والأب أديا هذا الدور من قبل وانتقلا لتكوين أسرة مستقلة، مبيّناً أنّه من الطبيعي حدوث تبعات نفسية على الوالدين جراء الشعور بابتعاد أبنائهم عنهم، ولكن هناك شعور إيجابي آخر يتمثل في أجواء الفرح التي تعم أفراد الأسرة حال تزوج أحد الأبناء، ومعناه في اللاشعور أنّها حالة نجاح للوالدين في امتداد الأسرة وأنها ستستمر، وعلى العكس تماماً وجود العانس في المنزل وعدم زواجها وكذلك الابن حال تأخره عن الزواج يشعرهم بوجود مشكلة في سير مجريات الحياة ولابد من حلّها. وأضاف: "بلا شك الوحدة قاتلة، فالبعد النفسي للأبوين عبر شعورهما بأنهما سيبقيان لوحدهما في المنزل بعد هذه السنين الطويلة إحساس سيئ لا يشعرهم بالراحة، ولكننا في الوقت الحالي نمتلك الكثير من عوامل التهيئة النفسية للوالدين، من خلال انتقال الأبناء من المنزل للدراسة في مختلف جامعات ومعاهد المملكة المنتشرة في مدنها، بل والسفر للخارج"، معتبراً أنّ كل ذلك يساعدهم في التعود على بعدهم، وكذلك انتقالهم لمقارّ أعمالهم إن كانت خارج محيط المنطقة التي يقطنها الأبوان، وكلّها عوامل مساعدة لتقبل فكرة ابتعاد الأبناء. العريس بإمكانه العيش مع والديه بعكس البنت انتقال البنت إلى بيت زوجها أكثر تأثيراً في الوالدين من الابن