والسن هاهنا ليس هو العمر ولا أحكامه الاضطرارية على الصحة والعقل والجسد - كما في المثل الشائع - وإنما هو العظم الذي يزين الفم، ويمضغ الطعام، ويخدم النطق... وحاجتنا الآن منه – بطبيعة الشعر – ليست وظيفته الحسية أو عمله الغذائي، وإنما حركته التي وقودها شعور النفس أو أحاسيس الوجدان، مثبتين في ذلك ما قاله الشعراء في هذا المضمار، ومتجاوزين - في الوقت نفسه - الأغزال البهية التي قد نظموها عن جمالية الأسنان (انتظاماً ولمعة وتلألؤاً). بدءاً فقد أثبت القران الكريم أن لحركة السن دلالة نفسية واتصالاً شعورياً، كما في قوله تعالى: "عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، وقوله تعالى: "ويوم يعض الظالم على يديه"، ففي الآية الأولى نجد بأن حركة السن قد جاءت لتعبر عن حقيقة الشعور الداخلي الذي طفح على صاحب ذلك الموقف بعد أن امتلأ جوفه بمشاعر الحنق والغيظ والكراهية، وأما الآية الأخرى فإنها كانت نابعة من مشاعر الندم وحسرة التفريط التي قد حاقت بصاحبها يوم القيامة. وعطفاً على ما سبق إثباته، فإن تراثنا الشعري العربي – بشقيه الفصيح والنبطي – قد سجّل أحوالاً مختلفة عن الدلالات النفسية لحركة الأسنان، وعن تابعيتها الشعورية لما يمور في جوف المرء أو لما هو منبثق من سجيته وطبعه، وذلك من خلال أبيات شعرية متنوعة قد جادت بها قريحة الشعراء فكانت في مجملها عكساً للأصل الذي قد عايشه الشاعر أو مجازاً عن شعوره الداخلي أو كناية عن خلق معين أو طبعٍ أصيل. وعلى أية حال فإن المؤكد بأن حركة الأسنان في القصائد العربية لا تأتي عند الشعراء إلا انبعاثاً من مشاعر مختلفة، وتفرعاً من أحاسيس متنوعة، وتنفيساً لعواطف مكبوتة، فجرت لأجل ذلك في مسارب عدة، واستخدُمت بها تعابير شتى لأغراض كانت – بحق - متنافرة، ومن هذا أنها قد تأتي في الشعر معبرة عن الأسى، ومصورة للأسف، كما في قول يزيد بن معاوية: وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضّت على العنّاب بالبرد كذلك ربما جاءت - أي حركة السن - في تصاوير الشعراء ثمرة للحسرة، ولذعة من الشوق، وترجمة للوله، كما هو في قول الشاعر الأندلسي الرقيق (ابن زيدون): ودَّع الصَّبْر محٌّب ودَّعَك ذائِعاً من سرّه ما استودَعكْ (يقرَع السِّنّ) على أن لَم يكُن زادَ في تِلك الخُطَا إذ شَيَّعَك يا أخَا البدر سَنَاءً وسَنًى حَفِظَ الله زَماناً أطلَعك إن يطُل بَعدَك ليَلِى فلَكَم بِتُّ أشكُو قِصَرَ الَّليلِ مَعَك وقريباً من هذه الصورة الزيدونية الأندلسية كانت أبيات الشاعر الكبير أحمد الناصر الشايع، والذي بدوره قد تحرك (سنّه) شوقاً وتحسراً، وذلك في أبياته التي يقول فيها: البارحه يوم كلٍ نام ما لجلج النوم بعيوني جيت ولقيت الحرس قدام وارجع من الباب مغبوني أصفق بكفي وأعض إبهام إبهام يمناي (بسنوني) من صابه الحب ما ينلام لا صار عاشق ومفتوني حبه بنا بالضمير خيام خلوا عشيري وخلوني أبتبعه والسلام ختام لو المخاليق يدروني وأيضاً فقد تأتي حركة السن تعبيراً خالصاً عن الحزن وشدته، كما في قول الشاعر زايد الرويس: قلت أتوّحد بحزني واثر ما غيري أحدٍ من الناس حس بعضة ابهامي ما ودي أشعر مع أحزاني بتقصيري ولا ودي أعيش باق العمر بأوهامي وغالباً ما تأتي حركة السن تعبيراً عن الندم في لغة الشعراء، كما في قول الشاعر القديم: يقرع من يأتيه سن النادم إذا لم يكن من قدم بقادم أو قول الأمير بدر بن عبدالمحسن في الشعر الشعبي: سألتك لحظة بيضاء حبيب وحاجب مفلول وصدق يعتق إبهام الندم من عضة سنوني وليس هو الندم والحزن والشوق والأسى الذي تتحرك الأسنان لأجله فقط، إذ إنها في أحايين أخرى قد تأتي عند الشعراء كناية عن بعض الصفات الشخصية، مثل الحزم والقوة والشدة، كما نرى هذا في البيت المشهور للشاعر الفارس عبدالله بن هذال القريفة: المراجل ما تهياها السويا كود من عض النواجذ في سنونه أو قول الشاعر فهد بن ظبيان: وصحيبك اللي في القسا يضرس الناب ايشل معك الحمل لو هي مصايب اللي ليا جيته وخاطرك منصاب اتروح من عنده وخاطرك طايب وقد تكون حركة السن – في أوصاف الشعراء – تعبيراً عن قلة الحيلة وضعف القدرة، كما في قول الشاعر: عزي لمن جدواه عضة إبهامه ماله .. ولابيديه حيله وتدبير رجاي باللي من نواشي غمامه يسقي ثراه .. ويكسي أرضه نواوير وحركة السن عند الشعراء قد تستعمل كناية عن الحماسة، كما في قول ناصر الفراعنة: وفي خفوقي فرخ جنية يضرس ضريس يوم أوردها هجوس وأصدرها هجوس وهي – أي حركة السن – تأتي أيضاً عند الشعراء تعبيراً عن شدة الحقد: ما تدري إن الوقت يضرس لي إضراس وإن الليالي حافله بالتجاعيد وخلاصة القول لما سبق ومُجمله، بأنه كما وللعيون لغة ناطقة من غير لسان، ولملامح الوجه تعابير وقراءات من غير صوت، فإن لحركة الأسنان المتنوعة - من عض وقرع وتضرس – مثل ذلك في الدلالة والتعبير والوشاية؛ إذ هي بمجملها تنمُّ عما يمتلئ به المرء من شعور، وتنبئ عما يضمره من إحساس، وتُنفس له عما يحس به من ألم.. وأنها بهذا الذي قلنا تنتظم جنباً إلى جنب مع تعابير الوجه الأخرى (العيون والملامح ولون الشعر) فتكون مرآةً لشكيمة الشخص، أو صورة لخاطره، أو دليلاً لمستوى محبته، وهذا في جميعه هو مما لم يفت على الشاعر العربي التقاطُه صورةً، واغترافُه إحساساً، واستعماله شعراً. أحمد الناصر أحمد الناصر الشايع بدر بن عبدالمحسن ناصر الفراعنة