لا تصنع اللغة الأجنبية شاعراً عربياً، فالشاعر العربي تصنعه شاعريته وثقافته وبيئته العربية وتراثه الشعري وبوصلته الفنية وأدواته. فهذه العوامل مجتمعة هي التي تصنع الشاعر العربي وتؤجج ذاته. ولكن اللغة الأجنبية تساهم مساهمة أكيدة في صناعة هذا الشاعر، فهي تفتح أمامه آفاقاً شعرية وثقافية وفكرية من شأنها أن تزوده بعناصر وأدوات لا يمكنه ان يعثر عليهما في لغته وحدها. لا يعني ذلك ان على الشاعر العربي ان يقلد الشاعر الأجنبي أو الشعر الأجنبي أو أن يحذو حذوهما. بل يعني أن يستأنس بهذا الذي يطلع عليه من الشعر عند الأجانب، ولا مانع من ان يقتبس تقنية شعرية من هذا الشاعر الأجنبي أو ذاك، وان يدخلها بلا تعسف في ثنايا قصيدته. أما التقليد والاحتذاء على الطريقة المشهور بها الشاعر السوري أدونيس فليسا بالأسلوب الأمثل في هذا الصدد ولعلهما من الأسلوب الأسوأ، وما ندعو إليه هو مهمة الاطلاع على تجارب الشعراء الأجانب، والانتفاع بما حسن منها وأمكن التأثر به دون جور على أساليب العرب في نظم الشعر، ودون أي انسحاق من الشاعر العربي أو شعور بالهول والانهيار إزاء تجارب شعرية أجنبية ناجحة. ففي نهاية المطاف هناك شخصية خاصة لكل شعر تنتجه أمة من الأم. ومن غير الجائز ان يشعر الشاعر العربي بأي عقدة نقص تجاه هذه الشعرية الأجنبية أو تلك ذلك أن تراث الشعر العربي من أعظم ما أنتجته البشرية في تاريخها، بل لعله ولا نغالي أهم من الشعر اليوناني أو الروماني أو الصيني أو الهندي القديم. وفي عصرنا الحديث وفي القرن العشرين على الخصوص سجل الشعر العربي فتوحات هائلة وأثبت قدرته على التجدد والتطور. ولكن دون أن يعني ذلك ان علينا والحالة هذه ان نوصد الأبواب بيننا وبين الشعر الأجنبي. بل علينا وعلى العكس من ذلك أن نشرّع هذه الأبواب أمامنا لنقارن ونحلل وننفتح ونتأثر وننتفع من أجل تنمية خصوصيتنا الشعرية ودفعها نحو مزيد من الإنجازات. ولتأكيد فكرتنا الأساسية، وهي أن الاطلاع على الشعر الأجنبي وباللغة الأجنبية مباشرة مفيد أيما فائدة للشاعر العربي نقارن بين شاعرين سوريين كبيرين هما عمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، فالثاني ظلت «بداوته» نقية خالصة لم تشبها أي عجمة فلم يدرس لغة أجنبية لا في المدرسة ولا فيما بعدها، بل كانت العربية هي اللغة الوحيدة التي عرفها وكتب بها شعره. أما الأول عمر أبو ريشة فقد درس في الجامعة الأمريكية في بيروت، وتابع دراسته في لندن، وفيها اطلع اطلاعاً جيداً على الشعر الإنكليزي وعلى سواه من الشعر الأجنبي. ويمكن للمبحر في شعر أبو ريشة وشعر بدوي الجبل أن يلحظ بوضوح نسباً قوياً يربط بين شعر «البدوي» والشعر العربي القديم ذي الديباجة الفخمة الباذخة. في حين يفتقد هذا الرابط بين شعر أبو ريشة وشعراء العرب الكلاسيكيين القدماء، فهو شعر عربي لا شك في عروبته كما هو شعر حديث أيضاً. وفي هذا الشعر لأبوريشة نعثر على «حداثة» شعرية وفنية وتقنية لا تتوفر في شعر «البدوي» تأثر بها عمر بالشعراء الأجانب الذين قرأ لهم. وقد كتب الناقد السوري الراحل محيي الدين صبحي مرة مقالاً أشار فيه إلى العناصر والتقنيات التي انتفع بها عمر في قصائد كثيرة له في مرحلة شبابه الشعري بعد عودته من لندن، لم يكن لها ان تتسرب إلى شعره لولا قراءاته الكثيرة في الشعر الإنكليزي فهذا الشعر الأخير هو الذي دل عمر على هذه الطريقة أو تلك في شعره. وما فعله عمر هو الذي أهّله لريادة لم تكن لتسلم له بدون هذه الثقافة الشعرية الأجنبية. ولا شك ان عمر لو وهب شعره عناية أكثر، وانصرف إلى الشعر دون ضغوط من السياسة عليه، لكان له دور أكبر في مسيرة الشعر العربي المعاصر. ولكنه انصرف انصرافاً واسعاً إلى حياة خاصة صاخبة، وإلى حياة عامة سياسية أكثر صخباً، فحرم شعره من تفرغ كان هذا الشعر بأمس الحاجة إليه. ولكن الجوهريّ في الموضوع هو أن اللغة الأجنبية زودته بطرائق وأساليب في التجديد والتغيير الشعريين بدونهما لم يكن أبوريشة هو الشاعر المجدد الكبير الذي نعرفه. ولا شك ان شوقي لم يكن هذا الأمير الخطير في دولة الشعر لولا إقامته الطويلة في فرنسا، وقراءاته المباشرة لشعرائها من شتى التيارات والمدارس الشعرية. وإذا قمنا بمقارنة سريعة بين شعره وشعر «غريمه» أو «صديقه» حافظ إبراهيم، ظهر لنا الفرق بين الشاعرين، ومبعث هذا الفرق هو ثقافة كل منهما. ففي حين كان الشعر العربي هو المنهل الوحيد لحافظ إبراهيم، كان شوقي يعرف أكثر من لغة أجنبية ويقرأ بها. ولكن هذا القارئ للغات الأجنبية، ظل متماسكاً إزاء ما قرأ دون ان ينهار أو يشعر بالضآلة، كما كان مصير أدونيس وهو يقرأ الشاعر الفرنسي سان جون بيرس أو سواه من الشعراء الأجانب فينقل أشعارهم إلى شعره ويدّعي أنها له. وكان طه حسين يشيد أيما إشادة بالشاعر خليل مطران ويصفه بأنه الشاعر المجدد الأول في زمانه. ولا شك ان طه حسين كان يشير بذلك إلى ان مطران هو أول من بدأ عصر الرومانسية والوجدانية في الشعر العربي المعاصر. ولم يكن مطران ليبدأ هذا العصر لولا اطلاعه على الرومانسية في شعر الفرنجة. وقد تنبه شعراء «أبولو» ومن قبلهم «شعراء المهجر»، إلى ضرورة الاطلاع على الشعر الأجنبي والانتفاع بالحساسيات الجديدة التي تتوفر في هذا الشعر. وإذا كانت هاتان الحركتان توصفان عادة بالطليعية والريادة والتأسيس والحداثة، فمرد ذلك هو انفتاحهما على شعر وأدب الأجانب. ولولا هذا الانفتاح لكان ما نصفه الآن بالتجديد في شعرنا ومنه تجديد السياب ونازك ورفاقهما، ملحقاً تماماً بشعرنا التقليدي الصرف الذي هو مجرد تنويع على الشعر العربي وفي مراحل انحطاطه. إن الاطلاع على الشعر الأجنبي لا يعني الانبهار لزاماً بهذا الشعر والحماسة المفرطة له. فكثيراً ما يطلع الشاعر، أي شاعر، على شعر أجنبي ويرفضه، ولكن كثيراً ما يفتح هذا الاطلاع آفاقاً واسعة أمام هذا الشاعر، بدونه لم يكن يهتدي إلى ما اهتدى إليه. من ذلك ان كثيراً من الباحثين في سيرة الشاعر إلياس أبو شبكة، صاحب ديوان «أفاعي الفردوس» اعتبروا أن أبو شبكة في هذا الديوان نسخ تجربة الشاعر الفرنسي بودلير في ديوانه «أزهار الشر»، ولكن باحثين آخرين قارنوا بين نصوص بودلير، ونصوص أبو شبكة، انتهوا إلى اعتبار تجربة الشاعر اللبناني تجربة أخرى تمتاز بالأصالة، وأنه لم يكن أبداً صورة منه أو له. لعله اقتبس «النهج» ولكن «الروح» ظلت روحاً عربية. وهذا بحد ذاته كاف ليهب الاطلاع على الشعر الأجنبي أسبابه الموجبة. فما الذي ينبغي ان يعتد به في هذا الاطلاع، هو الاطلاع بحد ذاته، وترك أثره يتفاعل في ذات المطلع، وإمكان استثماره في إطار الشعر العربي. وكل ذلك لا يشكل عاراً أو مذمة؛ فالتأثر والتأثير قانون ثقافي عام، إذ لم تنهض حضارة من الحضارات ولا ثقافة من الثقافات دون الارتكاز عليه..