اشتهر شاعرنا الشعبي عبدالله بن سبيّل بجزالة الشعر وابتكار الصور وكثرة الوجد والحنين في شعره المطبوع الذي لا تكلف فيه.. وقد عاش حياته - رحمه الله - شاهداً على الحضارة والبداوة، فهو من بلدة (نفي) بعالية نجد، وصار أميرها، وهي - نفي - مشهورة بجمال طبيعتها ونقاء هوائها وبيئتها وعذوبة مائها لذلك كانت مقصد البدو في الصيف (مقطان البدو) يقطنون حولها إذا اشتد حر الصحراء وقلّ الماء ويتداخلون مع أهلها في البيع والشراء فضلاً عن الأحاديث والسمر إذ إنهم من بيئة واحدة بعضهم قريب من بعض في العادات واللهجة والشعر، وكان شاعرنا الكبير يهفو لمقطان البدو ويعشق الجمال على عفاف، وله في ذلك قصائد رائعة يتجلى فيها حنين الوجدان وحب الجمال وتتردد فيها الكلمات الموحية بالوله والوجد والعشق مثل (يا وجودي) بمعنى (يا وجدي..) و(ياتل قلبي..) تعبيراً عن عمق الوجدان، وقد أعجب الناس بشعره وسارت به الركبان.. أما الشاعر الآخر الفصيح فهو عروة بن أذينة تابعي كريم ولد في المدينةالمنورة وتوفي سنة (130ه = 747م) وكان منزله عند وادي (تربان) قرب المدينةالمنورة حيث عاش هو الآخر في الحاضرة ولكن على مشارف البادية، وله غزل وجداني صادر من القلب مع عفاف عرف عنه وشرف.. من شعر عروة بن أذينة الذي يدل على شدة الوجد وقوة الحنين: إذا وجدت أوار الحب في كبدي ذهبت نحو سقاء القوم أبتردُ هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لنار على الأحشاء تتَّقد؟ فأوار الحب هو حرارته التي تمور في القلب وتفور في الوجدان.. فإذا أحس بها حدود الغليان ذهب إلى (القربة الباردة) فشرب منها لعله يطفئ بعض الحرارة اللاهبة، ولكنه يقول لنا إن هذا قد يبِّرد أعماق الوجدان حيث الحنين وخفقان القلب.. ومن شعر عروة - رحمه الله - وهو شعر رائق رائع فيه وجد صادق وهيام وحنين: إنَّ التي زعمت فؤادك ملّها خلقت هواك كما خلقت هوى لها فيك الذي زعمت بها وكلاكما يبدي لصاحبه الصبابة كلها ويبيت بين جوانحي حب لها لو كان تحت فراشها لأقلَّها ولعمرها لو كان حبك فوقها يوماً وقد ضحيت إذن لأظلها وإذا وجدت لها وساوس سلوةٍ شفع الضمير إلى الفؤاد فسلَّها بيضاء باكرها النعيم فصاغها بلباقة فأدقَّها وأجلَّها لما عرضتُ مسلِّماً لي حاجة أرجو معونتها وأخشى ذلها حجبت تحيتها فقلت لصاحبي: ما كان أكثرها لنا وأقلَّها فدنا فقال: لعلها معذورة من أجل رقبتها فقلت: لعلها! وهذا شعر موله لا ريب فيه، ولكن عروة بن أذينة رقيق الطبع عميق الوجد حتى في غير الغزل، كقوله يرثي أخاه: سري همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيد فتر أراقب في المجرّة كل نجم تعرّض أو على المجراة يجري لهم ما أزال له قريناً كأنَّ القلب أبطن حر جمر على بكرٍ أخي فارقتُ بكراً وأي العيش يصلح بعد بكر؟ فهو مرهف الحس، موهوب، سليم الذوق، غلب عليه الشعر بسبب موهبته وإن كان معدوداً من الفقهاء.. أما شاعرنا الشعبي عبدالله بن حمود بن سبيل والمتوفى سنة 1352ه فيلتقي مع عروة في الموهبة وسلامة الذوق وشدة الوجد والحنين وإن فرقت بينهم مئات السنين.. يقول ابن سبيل - رحمه الله: يا ونتي ونة طعين الشطيره في ساعة يؤخذ طمعها عشاوه خلِّي نهار الكون وسط الكسيره ما له ولد عم ولا له دناوه على عشير ما لقينا نظيره بالحضر واللي معتنين بالبداوه إلى بغيت ابدي عليه السريره صدّت ولدت في نظرها لهاوه تغلِّي الغالي للاقدام حيره تهم تغاليها جمال وحلاوه وله حين أبعد البدو عن نفي وقد ذهب الصيف: يا عين وين أحبابك اللي تودين اللي إلى طاب الوطن ربَّعوا به أهل البيوت اللي على الجو طوفين عد خلا ماكنّهم وقَّفوا به منزالهم تذري عليه المعاطين تذري عليها من الذراري هبوبه عهدي بهم باقي من السبع ثنتين قبل الشتا والقيظ زال محسوبه قلت جهامتهم من الجو قسمين الزّمل حدّر والظّعن سندوا به قالوا من الوسمي بناته إلى الحين ومن تالي الكنه تملّت دعوبه فهو يتحسر على رحيلهم ويحن لهم ويصف حالهم كيف تركوا قرب البلدة وذهبوا في الصحراء إلى حيث الماء والكلأ مع دخول الوسم. ويبلغ حنين ابن سبيل لمجاورة البدو أن يدعو ربه ألاَّ يهل المطر إلا في الصيف حين يقطنون بقربه وكأنما الشاعر يحن إلى حياة البداوة كلها ويريدها مع الحضارة (كأنما هو في صراع) الله لا يسقي ليالي الشفاشيف أيام راعي السمن يخلص ديونه فرَّاق شمل أهل القلوب المواليف وكلّ على راسه يباري ظعونه سقوى إلى جت نقضة الجزو بالصيف وأبعد ثرى نقعه وكنّت مزونه والعشب تلوي به شعوف من الهيف والشاوي أخلف شربته من سعونه وجتنا جرايرهم تدقّ المشاريف البيت يبنى والظعن يقهرونه