عندما يزهد القارئ في الروايات أو الشعر أو حتى من القراءة بشكل عام. فإن هناك كتبا تعيده إلى محبة القراءة من جديد. ومنها كتاب (دانتيلات: السعادة في ثياب الآخرين) للشاعرة هيلدا إسماعيل سجيني، هذا الكتاب الرهيف في عنوانه وفي تصميم غلافه والصادر عن دار أثر للنشر. هو كتاب يطرق فكرة السعادة برؤية تأملية. كانت المؤلفة فيه وبصوت خفيض تهمس لقارئها عن تجارب وعن أفكار وعن تأملات انتهت بالسعادة. والكتاب لا يمنح تلك الوصفات السحرية التي تؤدي إلى حالة السعادة. ما تفعله الحكايات في الكتاب هو الترغيب وإنها ليست فكرة مستحيلة. وفي هذا الحوار ل "ثقافة اليوم" نتعرف على رؤية المؤلفة عن تفاصيل كتابها (دانتيلات: السعادة في ثياب الآخرين): * بعد ثلاثة دواوين شعرية وبعد معرضين من التشكيل الضوئي، تقدم لنا الشاعرة هيلدا إسماعيل كتابها (دانتيلات: السعادة في ثياب الآخرين). هذه التجارب المختلفة، هل تعكس قناعات في الكتابة أم تعبر عن تحولات ومتغيرات في رؤيتك للحياة وللكتابة؟ - فعل الكتابة هو مجازفة بحدِّ ذاته، وأظنّني من ذلك الصنف من الناس الذي يهوى المجازفات الشيِّقة والشقيّة، ويعشق التلاعب بالأفكار والقدرات ومزج الكلمات وعصرها وتذوّقها أو استنشقاها.. أو حتى القفز بها في الهواء، وهذه المجازفات هي طريقتي الوحيدة لاكتشاف العالم. دانتيلات تستهدف القارئ اللمّاح الذي يبحث عن المعنى بين السطور و«دانتيلات» هو سردٌ لا يبتعد كثيراً عن قصيدتي أو كولّاجي، أو صوري الفوتوغرافية أو مقالي الأسبوعي، هو مجرَّد كتاب ارتدى ثوباً مغايراً ومختلفاً هذه المرة، لكي يتناسب مع بروتوكول حفلة السعادة التي سيلبّي دعوتها. حيث أن السعادة هنا ليست نشوة مستمرة، ولا رقصاً ودوراناً وبهجة لا تتوقف، وليست أيضاً نجاحاً أو توهُّجاً دائماً لا ينطفيء.. بل هي من يسمح بشحناتٍ صغيرة من الفشل والصعوبات والظروف أن تمرَّ خلالنا دون أن تترك جُرحاً عميقاً تتعثر به كلّ البهجات الأخرى. فالمسألة إذن ليست اختيارات مزاجية.. إنّها تراكمات وصيغ مترادفة ومتتابعة نختزنها في وجداننا، وهذا الخزين يتدفّق إلى الخارج على شكل ومضةٍ شعرية أو قالب سردي، أو صورة فوتوغرافية أو تشكيلية، ولهذا لا أميل أبداً إلى تسميته (قناعات)، لأنني مؤمنة بأن (القناعات.. أكثر شراً من الأكاذيب) حسب «أميل سيوران». * دانتيلات (السعادة في ثياب الآخرين). هل هو كتاب يصنف ضمن كتب المساعدة الذاتية أم هو كتاب موجه للقارئ الاستشفائي، أم هو كتاب ثقافي ملتبس التوجه؟ - يمكنك القول بأنني أحببتُ له أن يكون كتاباً تأمّلياً في خبرات الآخرين وأفكارهم حول مفاهيم حياتية كثيرة، من أهمها فكرة السعادة كمطمحٍ انساني قريب المنال، وبالتأكيد كلماتي تشتق منابعها من أفكار مساعدة الذات وترميمها بمعنى أدق، خاصة حين ترتطم بمعوقات الحياة، مع التأكيد طبعاً على المفردة والعبارة الثقافية والفلسفية التي تمثل بالنسبة لي الشرفة التي أطلُّ منها على الانسان القادم الذي عجنته التجربة وشكّلت روحه ووجدانه، أعني.. ذلك الانسان الذي أود أنا أن أكونه. * في دانتيلات حضرت الحالة الشخصية للمؤلفة، فكانت هناك حكايات وتجارب ومواقف شخصية، هذه الحالات تم مزجها برؤية المؤلفة وتتداخل مع اقتباسات من كتب أخرى، لكن الملاحظ أن هذا المزج يجعل القارئ يقع في حيرة الالتباس مابين ما هو للمؤلفة وما هو مقتبس؟ - صحيح أنني لم أعد أحب فكرة التقوس، لكنَّني استخدمتُ الأقواس جيدًا داخل «دانتيلات» من أجل حفظ الاقتباسات وحقوقها، وما عدا ذلك من كلمات.. فهو شرح اجتهدتُ فيه، ووجهة نظري ولغتي وتجربتي الشخصية، وهذا يعني بأن جميع الاستشهادات في الكتاب حضرّت (مقوّسة) بأسماء أصحابها. أمّا التماهي اللافت الذي أشرت أنت إليه ما بين لغتي ولغة الكتب التي تناولتها.. فذلك لأنني لم أرغب بأن أبدو مُقابل الاستشهاد بهم وكأنني وحيدة ومنعزلة، أو أن أبدو بشكل فجّ وفاقع وغير منسجم. لقد استخدمتُ شكلاً مهارياً من أساليب الكتابة أجزم أنني تدرّبت عليه كثيراً ليظهر بهذه الصورة المدموجة والسلسة والممزوجة، ومن منطق كهذا، عملتُ على ارتداء «السعادة في ثياب الآخرين» وإعادة تصميمها، كأنثى تُحيك فستاناً لم يكن لها يوماً ولم تختره، ولكن لكي تجعله يناسب ذوقها وقياسها.. فضَّلت أن تُضيف إليه الكثير من التفاصيل وشيئاً من خَامَة (الدانتيل) الانسيابية، وتخرج بفستانها وكأنَّه صنع خصيصاً لها، وأنه لم يرتده أحد سواها. عملتُ كأنثى تُحيك فستاناً لم يكن لها يوماً ولم تختره * الكتاب يحمل عنوان (دانتيلات: السعادة في ثياب الآخرين). هذا العنوان وكذلك تصميم الغلاف يشي بأنه كتاب يحمل دلالة أنثوية. لكن مضامين الكتاب مفتوحة وتتجه للقارئ من الجنسين. وسؤالي لماذا كانت الصبغة الأنثوية في العنوان وغلاف الكتاب؟ - تتبدل أمزجة الرجل والمرأة بالتبادل كما تتبدّل حالة الطقس، وكما تتشكّل السحب والغيوم وتتناثر من جديد، وبما أنني أنثى فمن الطبيعي أن أحاول فهم هذه الأمزجة التي أمرُّ بها والتي تتقاذفني كمركب بين الأمواج العالية حيناً، والمنخفضة حيناً أخرى. وكل ما أعرفه بأن مركبي هذا يشبهني كثيراًً، بينما يختلف تماماً عن ذلك المركب المخصص للجنس الآخر. كما أن اختيار مفهوم (اللّباس) كرداء للسعادة لم يأتِ من فراغ، ف (اللّباس) يطلق دائماً على حالة التعافي والشفاء، خاصة حين تكون ذواتنا مريضة أو مرهقة، وهو أمر لا بد أن يحدث لنا في الحياة، كوننا لم نخلق سعداء من تلقاء أنفسنا. دانتيلات * صوت المؤلفة في الكتاب ليس صوتاً وعظياً وأيضا ليس فلسفيا. كذلك أيضا لا يقدم الحلول أو الوصفات السحرية. هذا الصوت الهامس والذي يحمل نكهة الأمل هل هو الذي تعولين عليه في نجاح الكتاب؟ - كنتُ أحلم منذُ زمنٍ بأن أعبِّر عن ذاتي، كما حلمتُ يوماً مثلاً بأنني أطيرُ كفراشة أو كطائر أو حتى كملاكٍ بلا أجنحة. وفي هذا الكتاب حاولتُ أن أفعل ذلك، متجنبة العبارات الجازمة والحادة والأفكار المغلقة، وركزتُ على طرح المحتوي على شكل تداعيات وبوح شفاف، ولهذا لم أرغب أن تتبخّر كلماتي كما يتخبر المطرُ في الشوارع تحت أشعة الشمس، أردتها أن تندسّ، تتسلَّل، تتسرَّب إلى القارئ كالجمَال، كالسحر، كالعشق، كالمرأة الفاتنة دون أن يشعر بأنها أصبحت داخله. * في مثل هذه النوعية من الكتب تكون اللغة مباشرة. فهي تتجه لشرائح مختلفة من القراء. لكن اللغة في كتابك فيها بقايا من لغة الشعر وفيها الكثير من مزايا السرد. هل هذه اللغة حيلة أو طعم من المؤلفة لقارئها. وهل تعتقدين أن هذا سيحدث قطيعة مع القارئ البسيط لكتابك؟ - في اعتقادي بأن الكتب التي تعتمد الطريقة المباشرة باتت تصنّف ككتب مدرسية لا تأخذ بأحاسيس القارئ ولا بتلابيب قلبه، بينما الكتب التي تتميز بلغة شاعرية وبإيحاءات بعيدة المدى هي التي تحظى بمقروئية أكبر وبتأثير أعمق في النفس البشرية وبالتالي يسهل على الآخرين تقبلها والتعامل معها. وعلى المبدع أو الفنان أو الكاتب أن يجد الوسيلة المثلى للتعبير عن إبداعه. وهذا ما يلزمنا حقاً، نعم.. إنها الوسيلة المثلى. * في كتاب لا تحزن للدكتور عائض القرني كان الاستشهاد ببعض الحالات فيها اتكاء على المرجع الديني بينما كتابك يغيب عنه هذا البعد. فالمراجع التي الاستشهاد بها أو الاقتباس منها أغلبها كتب أجنبية. هذا الغياب هل سيفقد الكتاب ذلك القارئ الذي أعجب بكتاب لا تحزن؟ - استخدام الإشارات الدينية بمعناها الصارخ هو أسلوب وعظي وخُطبي ومنبري له أشخاصه المعنيون به، أمّا الاتكاء على القيمة الدينية ولمسها من خلال تتبع ظلالها ومرآتها المنعكسة وتأثيرها الشفاف على حياتنا فهو من صميم الكتابة الإبداعية، أقصدُ الكتابة التي تعتمد على كيفية التأثير باستخدام جماليات الفكرة وتموُّجاتها، والتي تستهدف القارئ اللمّاح الذي يبحث عن المعنى بين السطور ويشتقه ويتعب في تجرّعه ويتلذذ به، لا ذلك الذي يجد الإجابات أمامه دون مقابل. والشيء المؤكّد هو أن لكل كتاب طريقته ومناسبته ووسيلته للتواصل مع القراء، كما أنَّ كل كاتب يختار جمهوره بناء على الأسلوب الذي يتقنه. وفي الحقيقة لا تخلو أيّ كتابة مهما كانت من البعد الديني إن تمعنّا بها، لكن الاختلاف الجوهري يكمن في طبيعة نظرتنا للقيم الدينية، وفي الكيفية التي نريد من خلالها إيصال هذه القيم. * فلسفة السعادة والمفاهيم التي يتبناها كتابك حتى النماذج المطروحة هي منحازة للتجربة الغربية. هذا الانحياز ألا تعتقدين انه سيجعل القارئ لا يشعر بالحميمية مع تلك المفاهيم. ففي تصوري أن فلسفة السعادة مرتبطة بالمرجعية الثقافية والدينية والاجتماعية وكل بيئة تنتج فلسفتها الخاصة بها؟ - السعادة مفهوم إنساني قبل أن يكون مفهوماً ثقافياً، واختلاف البيئات والمرجعيات الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية لا يعني بأي حال من الأحوال الاختلاف على المنبع والجوهر. * كتابك.. هل هو مفيد لفاقدي السعادة، أم من هم يعيشون السعادة ولا يدركون سرها. أم هو مفيد لمن يلتبس عليه ذلك الفرق الضئيل ما بين السعادة والتعاسة؟ - كتابي هو (انفتاح جرح ما).. كما قال «كافكا» تماماً، ولهذا فهو ليس دليلاً للباحثين عن السعادة، وليس عبارة عن خارطة طريق للتعساء، ولا يستهدف أولئك الذين لديهم أسباب خطيرة للفقد أو الموت أو الفجيعة، هو تأملاتٌ تشبه ضوءًا نحيلاً يأتينا آخر النفق المعتم، الضوء الذي نفسره غالباً بما يمكن أن يتحقق لنا من فيض سعادة، نستحقّها.. وتستحقّنا.