الشوق لأحوالهم والإعجاب بعاداتهم سبب حنين الشعراء لزمنهم النفس البشرية مولعة بالمفقود، تعرف قدره، وترى جماله، وتتوجع للياليه وأيامه. ولذا هي تحن إلى الصِبا، وتبكي الشباب، وتشتاق إلى الوطن. ومن أفانين ولعها بهذا المنحى الوجداني ما يمكن تسميته ب "بكاء الأجيال"، وهو لون رثائي خاص، وانتحاب نفسي متكرر، غالباً ما تزفره صدور كبار السن وذوو التجربة، تبكي خلاله رجالاً مضوا، وعهوداً تصرمت، وأخلاقاً -يرونها- قد اضمحلت. وتنعى بحنَقٍ شديد - في الوقت ذاته- الزمان الذي قد آلت إليه أعمارهم، وحطت فيه رحالهم، فتتذمر منه ومما فيه: خُلُقاً وطباعاً وبشراً. أحمد الناصر ولا ريب بأن لهذه النفثات الحارة والنقد الموجع أسباباً مُنوعَة، وعوامل مُحفزة، لعل من أهمها ما قد يصح أن نطلق عليه مسمى "الاغتراب العُمري"، وهي المرحلة التي يكون فيها هذا الشيخ الشاكي قد انسلخ تماماً من مرح الصبا، وفتوة الشباب، وعنفوان الكهولة، مستقبلاً بعد ذلك كله مرحلة الشيخوخة بظروفها الاستثنائية ومتطلباتها الصعبة - مودعاً خلال رحلته الطويلة هذه الكثيرَ من مجايله ومعاصريه، إما موتاً لأرواحهم أو نوىً بأجسادهم، ليبق بعدها فرداً، يحمل طباعَ جيله المنقرض، وخُلقهم الاجتماعي، ومزاجهم النفسي، وأسلوبهم الفكري، في وقت قد تبدل فيه أمام ناظريه كل شيء، فصار – بحق - غريباً يعرف القليل ويُنكر الكثير. ولما سبق كله؛ فإنّ الحنين إلى الماضي مقروناً بالشكاية من التغيرات الاجتماعية والسلوكية الحاضرة - مع ندية المقارنة بينهما - هو حالة انطباعية قديمة في الثقافة العربية، وطبيعة متجذرة في ضمير إنسانها، فهي حاضرة في ذهنه، ومتقدة في وجدانه، ومستساغة جداً في أدبه، ولأجل هذا كان أن تجاوب شعراء العربية مع هذه الحالة النفس إنسانية قديماً وحديثاً، من خلال بوابتي الشعر الرئيستين (الفصيح والنبطي) بصورٍ تكاد أن تكون متطابقة، وبأمزجة شبه متفقة، وأغراضٍ هي – على الأغلب - متشابهة. بعد هذا؛ فلعلنا أن نخلص إلى جولة أدبية سريعة في ميدان الشعر العربي (الفصيح والشعبي) ؛ لنرى فيه شيئاً من رثاء الطيبين، متضمناً في ذلك الحنين لأيامهم، والشوق لأحوالهم، والإعجاب بعاداتهم وطباعهم. لعلّ من أشهر الأبيات اللائي قد حفظهن الزمان في التوجع على السالفين وأخلاقهم، والتذمر من اللاحقين وطباعهم، كانت أبيات لبيد بن ربيعة التي قالها يهجو بني زمانه التالي، ومشيداً ببني عمره السابق، إذ يقول: ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلفٍ كجلد الأجرب هذه السُنة اللبيدية في الشعر قد تبعها الكثير من الشعراء، ليصل الأمر بأحدهم أن يرى الناس والأرض كليهما يتغير ويتبدل، فيقول : فهل لي إلى أجبال هند بذي اللوى لوى الرمل من قبل الممات معاد بلاد بها كنّا ونحن نحبها إذ الناس ناسٌ والبلاد بلاد غير بعيدٍ عن هذا؛ وبصورةٍ شبه نمطية، فإنّ التوجد الشعري على الجيل المُنقرض يأتي غالباً في إطار الحنين لأخلاقهم الاجتماعية، من هذا كانت أبيات أبي العتاهية – الشاعر العباسي – التي شرح خلالها أخلاق " الطيبين "، وتبدل غيرهم، فقال : لله أزمنة عهدت رجالها في النائبات وإنهم لكرام وعلى هذا النحو الرثائي، والفجيعة الشخصية، والتألم الأخلاقي الاجتماعي، قد نحا الشاعر الشعبي المعروف عبيد الحمود الأسعدي (راعي بقعاء) في قصيدته المشهورة في بكاء "الطيبين" والتوجد عليهم، إذ يقول: لا والله إلا دوبحن الليالي وأقفن بشيمات العرب والمرواه أقفن ولا خلّن للأجواد تالي إلاّ ذنانة واحد وين أبلقاه داسن صناديد العرب بالنعالي وطتهم الدنيا والأ يام عدلاه العود عند الناس ماله جلالي والعفن صارت كبر ابانات علباه هذا زمان فيه قطع العقالي الرحم هو والجار ما عاد له جاه وبالإضافة لأخلاق الماضين الاجتماعية وتعاملهم السلوكي فإنّ ثمة بواعث أخرى خاصة لرثاء "الزمن الجميل"، إذ إنّ لكل شاعرٍ شجنه الخاص الذي تتوقد منه قريحته، وتنتظم من سببه أبياته، وفي هذا الصدد، ومن هذا الجانب، فقد يأتي بكاء الشعراء والتياعهم على رحيل "الطيبين" أسفاً لمعادنهم الأصيلة، وأحسابهم الكريمة، يقول الشاعر العباسي أحمد بن أبي فنن: ذهب الزمان برهط حسان الألى كانت مناقبهم حديث الغابر وبقيت في خلف تحلّ ضيوفهم منهم بمنزلة اللئيم الغادر كذلك فإن العوائد اليومية هي سبب فرعي وباعث ضِمني لبكاء "الطيبين" في الشعر؛ وذلك لما تحمله هذه العادات من رمزية أخلاقية، ودلالات معنوية، يقول الشاعر المعروف فيصل الرياحي: راحوا رجالٍ حي والله رياجيل وراحت بيوتٍ للنشامى مداهيل ماعاد تسمع طق نجر المعاميل اللي يفوز لعويته كل ضرمان وأيضاً فإنّ بكاء الجيل المنقرض قد يأتي لتبدل منزلة الشاعر واختلافها مع الجيل الجديد، يقول الحارث بن الوليد: ذهب الذين إذا رأوني مقبلا هشوا وقالوا مرحباً بالمقبل وبقيت في خلف كأنّ حديثهم ولغ الكلاب تهارشت في منهل وكذلك فإنّ نقصان الدين، وضعف التصون، وتبدل الرؤى، قد يكون سبباً لرثاء الأجيال، وفي هذا يقول الفقيه ابن المبارك: ذهب الرجال المتقدى بفعالهم والمنكرون لكلّ أمرٍ منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم بعضاً ليأخذ معورٌ من معور فطن لكلّ مصيبة في ماله وإذا يصاب بدينه لم يشعر وأيضاً فإن بعض الشعراء كان سبب أشواقه وباعث حنينه ليس هو الحسرة فقط على الجيل الذي قد كان أدركه، وإنما – أيضاً - لموازين ذلك الجيل وأقيسته، إذ إنه يراها تعطي الفريد مكانته، وتنزل الكريمَ منزلته، بخلاف زمانه الجديد الذي قد ندّ فيه عُمره، وتفسّحت إليه أيامه، يقول بندر بن سرور : راحوا وخلوها الرجال الصناديد قرناً لحقته ما بقاله شريده يوم الطمع دونه رماح وبواريد والنذل تنشب كلمته في وريده الحر يفرس والحباري مجاليد يعرف بها الطيب من أيا بديده ما يعرفون ابها هل الحسد والكيد ولا يفتخر راع الرصيد برصيده ومن الأسباب الخاصة والبواعث الضمنية في بكاء "الطيبين" والتوجع على فقدهم هو: صعوبة تربية الأبناء في الزمن الذي يعيشه الشاعر، يقول الشاعر خلف المشعان: اليوم لا منك غفلت وتناسيت صاروا عيالك بالبلد سرسريه منهو يربيهم اذا مانت ربيت وعلمتهم وجه السنع والخطيه يا لايمي ماهو تجاهل اليابطيت ولت ليالي " الطيبين " العذيه !! هذا زمان [اليب.. والبرب.. والتيت] ما هو زمان اقلط.. هلابه.. وحيه !! إلى ما سبق فقد يكون سبب رَثِية السالفين عائد إلى العبثية وانعدام الغائية في الجيل الجديد – خاصةً عند مقارنة هذا بجدية الأقدمين وصرامتهم، كما في قول الشاعر مسند الميزاني : راحوا رجال المعرفة والمهمات أهل الكرم ومطوعين العصاتي واللي بعدهم مايعرفون الاوقات جيل(ن) يهجول مايعرف المباتي وعلى أية حال، وبخلاف ما سبق ذكره في هذه العجالة، فإنّ أحد الشعراء الأقدمين قد التفت – فيما هو يبدو - إلى أن الشكاية من تبدل الزمن، والحنين للقديم منه، والتذمر من الجديد له، إنما هي عادة نفسية، وحرارة وجدانية، وتدويرٌ مشاعري، فيقول – دون مواربة -: خمسون عاماً تولت من تصرّفها عسرٌ ويسرٌ على الحالين أشهده لم أبك من زمن صعب لشدته إلا بكيت عليه حين أفقده وما جزعت على ميتٍ فجعت به إلاّ ظللت لستر القبر أحسده وما ذممت زمانا في تقلّبه إلاّ وفي زمني قد صرت أحمده وقريباً من هذا الاحتجاج القديم في تبرئة الوقت والبشر والأخلاق، فإن الشاعر الشعبي المعاصر نايف بن عبدالله بن عون يؤكد بأن "الطيبين" باقون، إذ يقول – وهو خاتمتنا -: مليت قولة راحوا الطيبيني الطيبين عيالهم مايروحون وقفاتهم عند اللوازم تبيني ومع درب اهاليهم على الطيب يمشون