التراث أيها السادة من جملة القضايا التي ينطبق عليها قول الله تعالى :(إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فالمسلمون اليوم صدى تراثهم، وكثير مما يعانونه تسقيه مآزيبه، وما لم تجر لهذا التراث حركات نقدية فسيظل سبب ما نحن فيه قائماً. من السهل أن نُجابه تلك المقالة الشهيرة "ما ترك الأول للآخر شيئا" بالمقالة المضادة لها "كم ترك الأول للآخر"؛ لكن هذا لن يُغيّر من واقع الثقافة شيئا، ولن يُبدّل من حال التراث الكبير قيد أنملة، ولن يكون سوى اعتراض طارئ، لا يلبث سامعه أن يعود للسياق المهيمن (الرواية) على ثقافتنا، وهو سياق اختصرته المقالة الأولى، وأوجزت لنا القول فيه، فجزى الله تعالى خيرا من قالها؛ إذ كشف لنا بهذه الأحرف اليسيرة عن روح ثقافتنا، والسياق القابض على زمامها. والغرابة عندي أن كثيرا منا يجهد أن يردّ السياق الطاغي بالشاذ النادر، وينسى أن الناس، ومنهم أساتذتي النحويون، قد قالوا في مثل هذا: الشاذ يُحفظ، ولا يُقاس عليه، فمن يدفع فكرة هيمنة الرواية، وتلبسنا بها، وشغلها لنا، وأضرارها علينا، يُشبه عندي من يناوئ قانونا لغويا راسخا بشاهد جرت فيه العرب على خلاف ذلكم الأصل، ويرى بعد ذلك فيه المقدرة على أن يكون مع صاحبه كفرسيْ رهان! مقالة "ما ترك الأول للآخر شيئا" هي التي حكمت ثقافتنا، وصاغت خطى حركتنا، ورسمت لأجيالنا منذ قرون الطرق التي يُسمح لهم أن يسيروا فيها، ويتجهوا حين سيرهم إليها. ولست أظن لها معنى خلا أن يتحول الإنسان، المؤمن بها، والمصدّق لدلالتها، وما أكثر هؤلاء الناس، إلى راوٍ فحسب، وحاكٍ فقط، وساعٍ في إقناع الآخرين بدور الرواية، وعدّها أكبر مُنجز يستطيع الإنسان أن يُسديه لأمته، وثقافته، وأجياله. من يؤمن بهذه المقالة، ويُودعها في قرارة نفسه، سيجد له طريقا واحدا في الحياة؛ وهو الرواية عمن سبقه، والانشغال به، وبما أنجزه، وسيرى مجال القول أمامه ضيقا، ودروب الحديث بعد أسلافه موصدة!. وفي نهاية المطاف لن يستطيع مثل هذا الإنسان أن يُشارك في صناعة المعنى، ولا في تهيئة الأجواء للبدء به، بل لن يتقبل هذه الفكرة من الأساس، وسيظل يُعيد الحديث، ويُبيده، حول معان، كلها راجعة إلى إيمان قار ب"ما ترك الأول للآخر شيئا"؛ وإن تظاهر حيناً من الدهر باستقلاله، وحاول أن يتصف بغير ما فيه. لو كان الناس يؤمنون بمقالة "كم ترك الأول للآخر" لما رأيناهم منذ زمن متقدم، وعصر في البُعد غابر، يلجأون إلى التكفير، ويعتصمون به، ويتخذون منه خطوطا حمراء، وغير حمراء، لكل من يُحاول أن يُدلل لهم ببعض النماذج القليلة على خلاف ما توحي به لهم هذه المقالة، وتذهب بأذهانهم إليه. لو كان المسلمون منذ قرونهم الأولى يتخذون هذه الجملة شعارا ودثارا؛ لما ورثنا نحن المتأخرين ومن حلّ في هذه المرتبة مثلنا هذا التوق إلى تبديع الناس، وذاك الشوق إلى تفسيقهم؛ حتى أصبحت كل أمة تُفسق أختها، وتُبدّع في فهم الدين غيرها! لو كُتب لحياتنا أن ترسم خارطتها هذه المقولة الرائعة "كم ترك الأول للآخر" لما صرنا في القرن الخامس عشر الهجري ننتسب للمدارس نفسها التي عاشت قبل ألف ومائتي سنة، ونتخذها عقدية وفقهية ولغوية نوافذ لنا حين التفكير، والنظر، والتقييم للآخرين وأعمالهم. لقد حكمنا الماضي حكماً، لا نستطيع معه إلا أن نردد صادقين مع أنفسنا: ما ترك الأول للآخر شيئا! لو كنا بحق نؤمن بهذه المقالة "كم ترك الأول للآخر"، وتسكن ضمائرنا، وتحتل أعماق عقولنا؛ لما كثر فينا قول القائل "خالف تعرفْ". هذه المقالة، وشهرتها اليوم في الناس، وجريانها على ألسنتهم، تنقل لنا بوضوح فداحة أن تكون من أنصار "كم ترك الأول للآخر"، وتكشف لنا لحظة نطق المرء بها عن الغرابة التي تعتريه، والعجب الذي يُحيط به، أن سمع منك همسة الآخر، وعثر في أقوالك على شيء من أدلة حضوره، وبراهين وجوده، وكان قد ظن أن الآخر هذا لم يعد له حضور، ولم تبق في الناس إليه حاجة! أتُرانا أيها السيد لو كنا بهذه المقالة "كم ترك الأول للآخر" من المؤمنين، وبمفهومها من المصدقين، أتُرانا بقينا على ما ترى اليوم من حالنا، وتُبصر من ضعفنا، وتجد من هواننا بين الأمم؟ أترانا وقد اصطففنا كافة، واشتغلت عقولنا عامة، واهتممنا بالمشترك الفكري فالحضاري، أترانا مغلوبين، وعن التقدم مدفوعين؟! أترانا أيها القارئ لو كان متأخرنا يعطي نصيباً من القول لمعاصريه لصرنا إلى معرفة الآخرين بمخالفاتهم، وتعييرهم باستقلالهم، وبنينا عليها أهرام فرقتنا الفكرية، فأصبحنا طوائف ومذاهب، يدخل من نوافذها الآخرون إلينا، ويتسللون عبرها نحونا؟! ومما يذكر في مثل هذا السياق، ويُورد في تأكيد انحيازنا للرواية، وإخلادنا إليها؛ ولو كانت ضعيفة وموضوعة، أن جمال الدين القاسمي نقل عن أبي الحسن الحنبلي (قواعد التحديث 168) قوله:" وكذلك أهل التفسير يضعون في تفاسيرهم أحاديث مكذوبة!. وكذلك كثير من الفقهاء يستدلون في كتبهم على المسائل بأحاديث ضعيفة أو مكذوبة. ومن لم يميز يقع في غلط عظيم. فالله المستعان". وحين تفكّرت في هذا التوصيف لحال بعض المفسرين لم أجد له تفسيرا خيرا من أن يكون هؤلاء المفسرون آثروا أن يُفسروا قول الله تعالى بحديث موضوع عن أن يقوموا هم بهذا الدور تجاه النص، ويسعوا في استجلاء معناه، وهذه الغاية ما كان لنا أن ننتهي إليها، ونصير إلى العمل بها؛ لو كنا آمنا أنّ لنا دورا في بناء المعنى، وصناعة الدلالة؛ لكنها الرواية، والاعتياد عليها، علّمتنا أن ما يُنقل من موضوعات، ويُحكى من أخبار مكذوبات، خير لنا من أن نستشير عقولنا، وننصت لها حين نظرنا في كتاب ربنا تعالى !. ومع هذا القول فقد كنت قدّمت في مقالين سالفين الحديث عن تشبعنا بالرواية، وتشبثنا بها، وأننا أقرب ما نكون إلى الإنسان الراوي، والعقل الحاكي، وأبعد ما نكون عن العقل المنتج والناقد. واليوم أود أن أحدثكم بالنماذج عن تأسيس هذا الدور، والسعي في تقنينه؛ إذ لم نكتف بالدعوة إلى الرواية، والتداعي إليها، والقيام بها، بل جعلنا ذلكم جزءا من منطق العلم عندنا، وسمة من سماته الأساسية، وبهذا التقنين أخرجنا بالمنهج المسنون، والمنطق المقرّ، المتأخر، وأزحناه عن المشاركة في صناعة المشهد، وإعداد الأدوار، فأصبح من جمهور المصفقين، لا غيرُ!. لم يكتف المتقدم بأن حثنا على رواية الأفهام، وحكاية ما كان قيل، بل اتجه إلى جعل ذلك أساسا معرفيا، وقانونا علميا، يُستغرب الخروج عليه، ويرتاب من مخالفته، ومثل هذا التقنين لدور المتأخر، والدفع به خارج حلبة المعنى، هو الذي جعل ذلكم المتقدم يقول مقالته الشهيرة: ما ترك الأول للآخر شيئا، وهكذا كان؛ لأن المسلم حين آمن بهذا نظريا، ووجده أمامه واقعا، ملزما به، لم يجد سبيلا آخر؛ غير أن يُعيد مع صاحب هذه المقالة قولته، ويساعده على نشرها، والإقناع بها؛ فاجتمعت الأمة، أو كادت، على تخلية المتأخر من المسؤولية، وإعفائه من المهمة، وأصدر علماؤها بهذا قانونا؛ ما زال ساريا إلى اليوم، ومن ذا الذي يستطيع نقض مثل هذه القوانين، والاعتراض عليها، بعد أن مرّ عليها جهابذة العصور، ونقدة الأفكار؟! وفي قضية التدليل على هذا الإخراج للمتأخر، والاكتفاء منه بدور الراوي، وصياغة ذلك قانونا من قوانين الفكر، ومبدأ من مبادئ النظر، أسوق لكم هذه النماذج من كتاب الآمدي "الإحكام في أصول الأحكام"، وهو أحد كتب أصول الفقه؛ ما يعني أنه معني، وكذا غيره من الأصوليين، بتأصيل أسس الفهم، وصياغة شروط النظر، وقوانينه، التي تُعدّ مبادئ لا يجوز الخروج عليها، ولا المساس بها. يقول الآمدي في المسألة التاسعة عشرة (1/ 329):" إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ اختلفوا فيه؛ فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك؛ خلافا لبعض الشيعة، وبعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر". ويقول أيضا في المسألة العشرين (1/ 334):" إذا استدل أهل العصر في مسألة بدليل، أو تأولوا تأويلا، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل، أو تأويل آخر؟ لا يخلو إما أن يكون أهل ذلك العصر قد نصوا على إبطال ذلك الدليل، وذلك التأويل، أو على صحته، أو سكتوا عن الأمرين..". وليس يغيب عن البال أن الآمدي يطرح في هاتين المسألتين موقف الناس من دور العالم الفقيه، وليس موقفهم من سائر الناس، وعموم المسلمين؛ فمثل هؤلاء لا تُطرح هذه الأسئلة حول دورهم؛ فشأنهم الذي لا شأن لهم سواه هو أن يرووا ما قيل، ويقفوا بأنفسهم عند هذا الحد. وتكشف هذه الأسئلة عنه الدور الذي كان يُنتظر من المتأخر أن يقوم به، ويتولى مهمته، وهو الرواية عمن سبقه، وأداء الأمانة في إيصال ما قال الأسلاف للأخلاف. وشجّع على هذا الدور التقليد والتقديس؛ فاجتمع على المسلم في إلزامه بهذا الدور أمران؛ أولهما تقديس المتقدم، وثانيهما تأسيس دور الراوي نظريا، واعتبار غيره من الأدوار قضية مشكلة، تُطرح حول إمكانها الأسئلة، وتثار قبل إقرارها الأذهان، وهكذا كان التأريخ، وما كان له أن يكون على غير ما أراد أهله له. ولا أنسى أن أقول في النهاية: إنّ أمة تنظر إلى متأخريها هذه النظرة، وتطرح حول دورهم مثل هذه الأسئلة، يُستبعد جدا أن تؤمن بحق المتأخر، وتقبل بحرية الرأي، وتقنع بالانفتاح على غيرها، وأنّى لها أن تصنع هذا، وحال تراثها ما رأينا بعضه هنا. إن التراث أيها السادة من جملة القضايا التي ينطبق عليها قول الله تعالى :(إن الله لا يُغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فالمسلمون اليوم صدى تراثهم، وكثير مما يعانونه تسقيه مآزيبه، وما لم تجر لهذا التراث حركات نقدية فسيظل سبب ما نحن فيه قائماً. وأول ما يلزمنا نقده، وإعادة النظر فيه، من هذا التراث، هو الحجر على المتأخر في دور الراوي، وسجنه في وظيفة الحاكي، فتلك هي نقطة البدء، فهل من سبيل قريب إليها؟!