يبدو العالم العربي اليوم وكأنه يعيش زمن القرون الوسطى بكل تفاصيلها المعرفية والسياسية والدينية والاجتماعية، وربما الاقتصادية إلى حد ما؛ لولا العائد الريعي الذي يخدع كثيرا من قاطني هذا العالم عن أنفسهم، فيتوهمون أنهم كغيرهم من بقية خلق الله قد انعتقوا قريبا من أزمنة الحداثة، متوجهين إلى عالم ما بعد الحداثة. ولهذا كثيرا ما يُقررّ بعضهم لبعض على سبيل تأكيد هذا الانعتاق الموهوم أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين، مستغلين هذا المحدد الزمني الفزيائي الذي يحتوي البشرية جمعاء من أجل القفز على حقيقة أنهم لم يبرحوا حدود القرن السابع عشر الميلادي على أحسن تقدير. إذا كان من المؤسف والمؤلم لنا جميعا أن تدخل المنطقة العربية في أتون الصراع الطائفي على أوسع نطاق، وبصورة همجية لا سابقة لها، فمن المؤلم أكثر أن إحساسنا بضرورة التصدي لهذا الصراع يكاد يكون معدوما. قد يكون المرض كارثة، ولكن عدم الوعي بأهمية علاجه هو الكارثة الحقيقية ما زال هذا العالم العربي كما العالم الإسلامي في مجمله يعيش على إيقاع المفاصلة الدينية والمذهبية والعرقية. فالهويات الأولى (= الما قبل مدنية)، وهي الهويات التي يفترض أنها فرعية وهامشية من حيث موقعها من الحراك المدني، لا تزال هي الهويات الحاكمة الموجهة للسلوك الشخصي والعام في عالم المتخلفين الذين لم يطأوا العتبة الأولى للحضارة بعد. لقد كانت هذه الهويات الفرعية موجودة منذ قرون، وكانت كثيرا ما تُحدث إشكاليات معرفية ومجتمعية وسياسية في نطاق تفاعلها مع محيطها، في حدود مجالها الحيوي. وكان الرهان يجري على قدرة الزمن (وخاصة بعدما فرضت المدنية الحديثة كثيرا من صور التواصل مع العالم الحر الذي يمتلك تجربة ناجحة في تجاوبها) على إحداث تقدم إيجابي في سبيل الحد منها، وذلك بتحجيم حضورها سياسيا واجتماعيا، وتقليم أظفار التوحش فيها، وتعرية أوهامها عن التاريخ وعن الراهن، ودكّ صروح المزاعم الاعتقادية العمياء؛ لنصل إلى حصرها في مجال نطاقها الخاص، والخاص جدا. كنا نظن أننا كبقية الشعوب الحالمة بغد أفضل، والتي تمتلك ولو شبحَ وَعْيٍ من حضارة، كنا نظن أننا نسير ولو رويدا في مضمار التحرر من الهويات الفرعية إلى الأمام حيث الانتماء المدني الإنساني. لكن، وللأسف، اكتشفنا أننا نسير وبخطى حثيثة إلى الوراء، بل وإلى ما وراء الوراء! اكتشفنا أننا نفكر دينيا وسياسيا واجتماعيا بعقلية القرون الوسطى التي تجاوزتها بنِسَب متفاوتة أغلبية الأمم، وخلّفتها وراء ظهرها، متطلعة إلى الغد، بحيث باتت تحكم على حاضرها بشروط مستقبلها لا بشروط ماضيها المعطوب بكل عناصر التطرف والتخلف. يمكن القول بلا مبالغة: إننا اليوم نعيش أسوأ مراحل الانقسام، بل أفظع مراحل الصراع بين شرائحنا الاجتماعية/ الوطنية التي تمتلك من حيث هويتها الأساس كثيرا من مقومات التلاحم والتضامن، بل التي كانت متلاحمة ومتضامنة ولو بالحدود الدنيا إلى عهد قريب، أي إلى ما قبل انبعاث المارد الأصولي الذي أعاد إحياء التقليديات المذهبية بكل عفونتها التاريخية، وزاد عليها ما يجعل العداء بين أبناء الأمة الواحدة يتجاوز كل صور العداء المحتمل، في الوقت الذي يتضامن فيه العالم المتحضر بشتى صور التضامن، ويقيم مجمل علاقاته على قاعدة صلبة من إرادة الخير العام (الخير لكل البشر، بلا تصنيف من أي نوع!)، وعلى جملة مبادئ تتجافى عن منطق الحرب ما أمكن لتحقيق مبدأ السلام. من يتأمل واقعنا سيصاب بالصدمة حقا، إذ نسير في الاتجاه المعكوس. فمن العراق، حيث يشتعل الصراع الطائفي بجنون غير معهود منذ عشر سنوات، إلى سورية حيث يتمفصل الصراع على السلطة صراعا على حدود الانتماءات الطائفية، بدوافع سياسية، لا دينية في الأساس، إلى اليمن المُعرّض لما هو أسوأ، بل وإلى الداخل الإيراني، فضلا عن المناطق/ الدول الأخرى الذي يتخذ فيها هذا الصراع طابع التحريض الديني والمجتمعي، أي الصراع المكتوم. إن المفكرين والزعماء الذين تحدثوا حالمين عن الأمة وعن نهضتها واتحادها قبل قرن من الزمان، لم يدر بخلدهم أن (تتطور!) هذه الأمة في الاتجاه السالب إلى درجة الارتكاس التام. ربما توقعوا ارتدادا هنا، أو تعثرا هناك، أو شيئا من تأزم بين هذا وذاك، ولكن لم يكن خيالهم ليسمح لهم بتصور أن تنحدر الأمور إلى هذا القاع المخيف. مَن يصدق أن قرنا كاملا من أحلام النهضة والاتحاد و... إلخ الأحلام الوردية سترجع الأمة بعدها بؤرة من بؤر الصراع المحتدم بين أبناء الوطن الواحد، بل بين أبناء المدينة الواحدة، حتى برز العالم العربي للعالم أجمع وكأنه لا يملك إلا ذهنية صراع وتشتت وانقسام، بل بدا وكأنه لا يجيد غير الصراع العبثي الذي لا يلتهم المقدرات المادية فحسب، وإنما يستنزف المخزون الروحي والأخلاقي أيضا، وهو المخزون الذي لم يبق منه إلا القليل، بعد أن تلاعب به المتلاعبون من عشاق الكراسي ومن سدنة هياكل القداسة على مدى قرون من تاريخنا الحزين. من الطبيعي وخاصة في مثل سياق الراهن العربي، حيث لم تتجذر الدولة المدنية في الوعي أن تتفجر الصارعات السياسية بين الحين والآخر، ومن الطبيعي أيضا أن يحاول السياسي توظيف التأزمات المذهبية، ونقلها من حيّز الجدل المعرفي إلى واقع الفعل السياسي. وتبعا لذلك، من الطبيعي أن يبادر قبل الطلب أو بعده بعضُ دهاقنة التجارة المذهبية إلى تقديم خدماتهم الزبائنية للمتنفذ السياسي. كل هذا طبيعي؛ ما دمنا نتحدث عن مثل هذا السياق العربي المأزوم بفعل شروط التاريخ وبفعل شروط الواقع. لكن، ليس الطبيعي أن تنساق الأمة بمُجمل وعيها: بوعاظها ومفكريها وعلمائها وإعلامييها، فضلا عن جماهير الدهماء، إلى التواطؤ على تأييد هذا الصراع وتأبيده في الفكر وفي الواقع، بوصفه قدرا محتوما، هكذا كان منذ البدايات الأولى لتشكل الهوية الإسلامية، وسيبقى هكذا إلى الأبد. لقد أصبحت البنية المذهبية بنية سياسية، بدل أن تكون محض دينية/ روحية. وهذا هو ما قاد إلى توظيفها في العمل السياسي مؤخرا. هذا هو ما أراه، مع أن هناك من يرى العكس، أي أن توظيفها في العالم السياسي هو أولا ما حوّلها إلى بُنية سياسية تعمل بشروط العمل السياسي/ الواقعي، لا الروحي المتعالي. ولا شك أن كلا وُجهتي النظر يمتلك وجها من الصواب. غير أن غياب الدولة بمفهومها المدني لقرون دفع تلك التكتلات المذهبية إلى ممارسة أدوار اجتماعية، ومن ثم سياسية، هي من حيث المبدأ منوطة بالدولة المركزية/ الشمولية التي لم تكن في الحالة الإسلامية مدنية/ محايدة بحال. ما يعني أن تسييس المذهب سبق التوظيف السياسي الراهن له. فالمتنفذ السياسي عندما بدأ يتعاطى مع التكتلات المذهبية من أجل توظيفها في الصراع السياسي الراهن، فعل ذلك وهو يدرك أنه يتعاطى مع تكتل سياسي بالدرجة الأولى، وأنه ستبقى له هويته السياسية، سواء استغل هذه الهوية أو تجاهلها، فهي فاعلة سياسيا به أو بدونه، وإن لم يستغلها هو في مشروعه السياسي وهو مشروع صراعي بالضرورة فسيستغلها الآخرون. هذا يعني أن ثمة صراعا ملازما للوجود المذهبي في صورته الراهنة. ما يؤكد أن مجرد عزل المذهبية عن الفعل السياسي إن أمكن هذا العزل! لا يعني تحررها من ذهنية الصراع. ومن هنا، فدخولها في هذا العالم الصراعي هو قدرها الكامن في طبيعة وجودها الراهن، وهو الوجود المتلبس بالتاريخ ضرورة لا اختيارا. لا خروج من هذا المأزق إلا بإعادة فحص المذهبيات بلا استثناء، لا في مستوى الحضور المعرفي فحسب، وإنما حتى في مستوى الهياكل التنظيمية وشبه التنظيمية (ما يعني فضح علائقها الاستنفاعية مع السياسي والاجتماعي/ الاقتصادي، وانتهازية الزعامات... إلخ). وهذا دور معرفي، كما هو دور تنظيمي مؤسساتي رقابي، لا فعالية له إلا بشموليته، أي أن تمارسه كل المذهبيات أيا كان موقعها من السلطة المعرفية والسياسية؛ بقدر ما يمارس عليها أيا كان موقعها منذ هذه وتلك. إن كون الصراع السياسي يُدار من منظور طائفي لا يعني حتمية أن يكون كذلك على أرض الواقع، كما لا يعني أن يتبع التفسير على نحو آلي ومباشر هذا المنظور. فالواقع يشهد أن المنطلقات السياسية هي الحاكمة للفعل السياسي قبل أي شيء آخر، وأن التوظيف الطائفي يتحقق واقعيا عندما يكون هو الأجدى سياسيا، وإلا فالانتماء الطائفي ذاته لا يعني أي شيء في الحسابات السياسية عندما يتعارض مع المصلحة الواقعية. التصور السياسي لجدوى الطائفة هو ما يدفع إلى دعمها والاستعانة بها؛ لأنها القادرة على توظيف جماهير الغوغاء الذين ينقادون ببراءة خلف الشعارات الطائفية؛ دون أن يدركوا أنهم ليسوا أكثر من وقود صراع دنيوي على مغانم لن يأخذوا في أحسن الأحوال إلا فتاتها، بل وربما لم يظفروا كثمن لدمائهم المهراقة إلا بأن ترفع أسماؤهم في سماء الوهم أنهم: شهداء! طبعا، بعض الدول ذات هوية طائفية واضحة، سواء تم التصريح بها في الدستور أو جرى التكتم عليها. وقد تكون هذه الطائفية مؤثرة بحق في سياسات تلك الدول من حيث شعر القائمون عليها أم لم يشعروا. لكن، لا بد أن ندرك أن للدول منطقها السياسي، والذي هو أكثر فاعلية من الديني والقيمي والأخلاقي. ما يعني أن تعويل مناهضي الطائفية يجب ألا يكون على التوصيف الطائفي في هذا السياق، بل يكون على الحسابات السياسية التي هي في النهاية ما يقرر إلى أي مدى ستتم استثارة نقاط المفاصلة الطائفية أم لا. كما أن كون بعض الدول ذات هوية طائفية معلنة، أو كونها تسعى لاستثمار الجود الطائفي بأي شكل، لا يعني أن يستسلم صانعو الوعي لهذا الواقع، بل لا بد أن يمارسوا دورهم المعرفي والأخلاقي في الحد منه، وتوعية جماهير الطائفية بطرائق استغلالها، وأن ما تعده وتعتمده دينا ليس بدين، حتى وإن خرج من صميم المقولات الدينية العتيقة. كما لا بد من توعيتها بإشكاليات الصراع الراهن، وتبصيرها بتداعياته لا على الحاضر فحسب، وإنما على مستقبل أجيال وأجيال هي المسؤولة عن واقعهم اليوم، أي عن الأجيال ستكون هي الوقود الفعلي لهذا الصراع العبثي الذي يمارسه محترفو الدجل باسم الله. وإذا كان من المؤسف والمؤلم لنا جميعا أن تدخل المنطقة العربية في أتون الصراع الطائفي على أوسع نطاق، وبصورة همجية لا سابقة لها، فمن المؤلم أكثر أن إحساسنا بضرورة التصدي لهذا الصراع يكاد يكون معدوما. قد يكون المرض كارثة، ولكن عدم الوعي بأهمية علاجه هو الكارثة الحقيقية التي تُحقق معنى الكارثة الأولى. ومن هنا، فاسترسالنا مع تجاذبات هذا الصراع هو ما يحقق من الصراع الطائفي حقيقة، وبدون هذا التجاذب من قِبَلنا تكون هذه الصراعات في حكم المعدوم. اليوم وكمثال على بلدنا تجاه ما جرى ويجري يجرأ الخطباء والمتحمسون وكثير من متسنمي ذروة المنابر الإعلامية بأقبح وأشنع صور التصنيف الطائفي، ولا رقيب ولا حسيب! نحن الآن: أمة يلعن بعضها بعضا على المنابر، ويدعو بعضها على بعض بالويل والثبور، ويتمنى بعضها أن يفترس بعضا. وأمة كذلك ليست أكثر من أمة وحوش، بل أسوأ من الوحوش، فالوحوش لا تفترس إلا في نطاق المعقول، أي في نطاق ما يسد الرمق تحت وطأة الجوع ومن أجل دورة البقاء، بينما تبقى مسالمة ما دامت ليست جائعة. عكس هذا تكون هذه الوحوش البشرية التي تفترس الأعراض بالسب والشتم والتكفير العريض، كما تستبيح الدماء والأشلاء، وكل ذلك بأوهام عريضة عن الولاء والبراء. إننا بهذه الحال الذئبية تحولنا إلى أمة على شفا جرف هار، على حافة سقوط لا يُهدد معنى وجودنا فحسب، وإنما يهدد وجودنا ذاته أيضا. ومع أنه خطر ماثل، وأن نتائجه المفزعة المروعة قد بدت للعيان منذ عشر سنوات في العراق ومنذ سنتين ونصف في سورية، ومن قبل في لبنان واليمن، إلا أننا لا نتوفر على قانون واحد صارم يجرّم العنصرية الطائفية، ويحاسب على التكفير بالجملة لأبناء البلد الواحد. ولعل أهم مفارقة في هذا الموضوع أننا أحوج الأمم في الوقت الراهن إلى مثل هذا القانون الحضاري/ الإنساني، ومع هذا لا يوجد لدينا، بل يتوجه الوعي العام المأزوم بصراعاته إلى التصدي لكل المحاولات التي تحاول استصدار هذا القانون الإنساني، الذي من شأنه فيما لو كنا حضاريا على مستوى استصداره أن ينقل المُتعصب الطائفي العنصري التكفيري التضليلي من مَنصة مِنبره المُبجّل إلى مكانه الطبيعي خلف القضبان.