بجانب أحد أسوار المدينة القديمة في قرطبة يتبدى مهيباً جليلاً نصب كبير للمفكر (ابن رشد) كأحد أبرز مفكريها وأعلامها، وقد نحت على قاعدة النصب اسمه اللاتيني الذي اشتهر به في أوروبا (أيفروس)، نتأمل عمامة ابن رشد وعباءته العربية، ونظرته المأخوذة المنطلقة إلى النهايات المفتوحة للأجوبة، فنتوقف إجلالاً لعربي أسهم في صناعة جزء من عصر التنوير الأوروبي وحرر (قبل عصور طويلة) العقل من ظلماته وقيوده، ولكننا في نفس الوقت سيتهدم جزء من جدار القلب، إذا علمنا أن (ابن رشد) نفسه قد مات طريداً في المنفى، بعد أن أجلي عن قرطبة وأحرقت مكتبته ومؤلفاته التي بلغت خمسين مؤلفاً في الفقة والطب والفلسفة والفلك إضافة إلى ذخيرة معرفية هائلة من علوم ذلك العصر. وابن رشد رغم اطلاعه وعلمه الواسع إلا أنه ظل منفياً طريداً خارج كتاب التاريخ العربي تطارده هراوة الغزالي في كتاب (تهافت الفلاسفة).. وقبل أن نتعرف عليه بعمق في العصر الراهن دار دورة واسعة حتى وصل إلينا فمؤلفاته ترجمت إلى العبرية (لاسيما أن أول منفى له هو مدينة إليسانة قرب قرطبة والتي كانت مليئة باليهود)، ومن ثم ترجم إلى اللاتينية، واشتهرت شروحاته لكتب أرسطو، تلك الشروحات التي كانت تدرس في الجامعات الأوروبية (كالسوربون وجامعة بادوا في إيطاليا) وهي الشروحات التي قدحت زناد العقل والفلسفة في عصر التنوير الأوروبي. بينما في العربية أعدنا اكتشافه مؤخراً على يد ثلة من المفكرين العرب كالجابري الذي أنزلوه منزلته التي يستحقها ليس فقط في الفكر الإسلامي بل كمؤثر في المعرفة الإنسانية. تاريخياً يقال مع إحراق مكتبة ابن رشد أجهض مشروع الفلسفة في العالم العربي، أن كانت الحساسيات العقدية تتوجس وتتحرز من الفلسفة فإن ابن رشد في كتابه (تهافت التهافت) الذي رد فيه على الفقيه الغزالي كان يرفض أن يكون هناك أي تعارض بين الدين والفلسفة وكان يقول في التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له) في وقتنا الحاضر ظهر في العالم العربي تيار كبير ووعي كبير يطالب بإعادة الاعتبار (للفلسفة) والتي هي أم العلوم وأبوها كشرط أساسي للنهضة الحضارية. وقد يكون في الفلسفة وتدريسها والاهتمام بها، تعزيز للوعي واحتفاء بالعقل وقد تكون طوق نجاة يلقى لهذه الأمة الهادرة من المحيط إلى الخليج والعاجزة عن أن تنهض من كبوتها الحضارية المؤزلة، والتي تستغرقها حالة انسحابية إلى الوراء مع خطاب خرافي يصنع تدليساً جمعياً يخبرها بأنها أفضل الأمم. بدون فضيلة الشك والأسئلة التي تخضع جميع الأمور والمسلمات للنقاش والتحليل والنقض.. لن يكون هناك وعي حضاري ولن تكون هناك نهضة..