ابتعثت الهيئة العليا للسياحة مؤخراً، وفداً حكومياً يضم رؤساء البلديات في المناطق والمحافظات، إلى فرنسا، لإطلاعهم على التجربة الفرنسية في مجال التنمية السياحية والعمل المشترك بين البلديات وأجهزة السياحة. وعقد الوفد لقاءات مطولة مع عُمد المدن التي شملتها الزيارة، إضافة إلى مسؤولي البلديات وأجهزة السياحة في المدن الفرنسية. وأجاب المسؤولون الفرنسيون على استفسارات الوفد السعودي، والتي شملت الكيفية التي تدار بها السياحة في فرنسا، ودور البلديات في التنمية السياحية وما طبيعة العلاقة بين البلديات وأجهزة السياحة في المدن الفرنسية، وكيف يتم التنسيق بينهما فيما يتعلق بتخطيط الخدمات البلدية والتخطيط المكاني للمناطق السياحية، وأيضاً كيفية التعامل مع الآثار ومواقع التراث العمراني ليس فقط لجهة حمايتها والمحافظة عليها فهي الجزء الأسهل من المعادلة وإنما لجهة بث الحياة في أوصالها، وتحويلها إلى واقع معاش من خلال توظيفها اقتصادياً وثقافياً وسياحياً، وتحويلها إلى الجزء الأكثر حياة وانتعاشاً بين أحياء المدينة. أما الزيارات الميدانية للمدن والمواقع السياحية التي زارها الوفد فقد أتاحت له التعرف على أرض الواقع على النتائج الايجابية للتجربة الفرنسية في العمل السياحي، والفوائد التي حققتها السياحة لهذه المدن سواء لجهة فرص العمل التي وفرتها لأبنائها، أو زيادة دخول مواطنيها، أو الحفاظ على تراثها ومقوماتها الثقافية والبيئية. فندق عمره 700 سنة منطقة «البروفانس» التي كانت مسرحاً للزيارة كانت خياراً رائعاً حيث اشتهرت بكونها إحدى أهم المناطق السياحية في فرنسا حيث نجحت في استثمار تاريخها العريق، ومعالمها السياحية الشهيرة، وشخصياتها الثقافية، وتنوعها البيئي والثقافي لايجاد أنماط سياحية مميزة. منذ اللحظة الأولى كان حرص الهيئة واضحاً على أن يعيش الوفد التجربة بشكل كامل حيث تم إسكان الوفد في فندق (شاتو دو لابيولين) الذي كان فيما مضى قصراً لأحد النبلاء الفرنسيين في القرن الثالث عشر أي أن تاريخه يرجع إلى أكثر من 700 سنة حيث بناه أحد النبلاء في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان الفندق يحتفظ بالطابع التراثي للقصر مع الحفاظ على مستوى راق من الخدمة. برنامج الزيارة كان موظفاً بامتياز لتحقيق الهدف منها حيث يبدأ من الساعة التاسعة صباحاً ولا ينتهي قبل الثانية عشرة مساءً يتخلله طبعاً وجبتا الغداء والعشاء واللتان كانتا تجربة في حد ذاتها حيث يتم اختيار مطاعم ريفية تمثل نماذج لاستثمار المزارع والحقول وتوظيفها سياحياً كمشاريع عائلية تديرها الأسر الفرنسية التي تمتلك هذه المزارع. بعد الظهر قام الوفد يرافقهم مرشد سياحي من البلدية بجولة في البلدة القديمة التي تمثل مركز مدينة «إيكس إن بروفانس» وتتوسطها جادة «ميرابو» الشهيرة التي يعود تاريخها إلى القرن السادس عشر..كانت مباني البلدة الشهيرة وشوارعها تضج بالحياة فالبيوت مأهولة، والمقاهي مليئة بالناس، بينما كانت المحلات التجارية تحتضن مختلف الأنشطة التجارية من المصارف، والمطاعم والمقاهي، ومحلات الملابس والعطور وغيرها، في هذه المحلات - كما يقول الدليل السياحي - تُباع أرقى الماركات وأفضلها، ومن يرغب في شراء أي منتج راق يأتي إلى وسط المدينة وليس إلى المجمعات التجارية التي تقع في الأحياء الحديثة من المدينة، ولذلك فإن سعر المتر المربع في هذه المنطقة يصل إلى (25) ألف يورو - أي ما يقارب 115 ألف ريال، وبالإضافة إلى ذلك فالبلدة القديمة تضم مباني حكومية ومراكز علمية متميزة مثل مبنى محكمة الاستئناف الذي كان سجناً للمدينة في القرون الوسطى، ومركز دراسات البحر المتوسط، ومركز الدراسات العربية.. كانت مدينة إيكس إن بروفانس قد حققت المعادلة الصعبة كما قالت لنا فيما بعد رئيسة بلديتها فهي مدينة قديمة يعود تاريخها إلى عام 124 ق. م ولكنها تعيش في القرن الحادي والعشرين، وكان الدكتور علي الغبان مستشار الأمين العام للهيئة العليا للسياحة للتراث والثقافة يشرح للوفد البُعد السياحي لهذا الأمر حيث يقول: إن المهم ليس المواقع والمباني التراثية وإنما كيف يمكن توظيف هذه المباني، وإعادة الحياة إليها.. المهم فعلاً هو كيف يدار الناس والأنشطة هنا وهذه هي مهمة ومسؤولية البلديات وليس أي جهاز آخر. المرشد السياحي المرافق للوفد أشار إلى أن كل عقار أو مبنى من هذه المباني موثق ومسجل لدى البلدية في سجل يتضمن وصفاً دقيقاً ومتكاملاً للعقار والبيئة أو الوسط التي يقع فيها، ولا يمكن لمالكه أن يغير أو يضيف أي شيء أو حتى أن يدق مسماراً بدون إذن البلدية، وحتى أشجار «البلاتان» الضخمة التي تظلل أسواق وممرات البلدة القديمة مسجلة وكل شجرة لها رقم وسجل خاص بها لدى البلدية، وهناك مختص بها يسمى «طبيب الأشجار»! في المساء كان الوفد على موعد مع مسؤولي البلدية والسياحة في المدينة حيث أوضحت رئيسة البلدية أن لديها ثلاث مهام رئيسة هي: تقديم الخدمات إلى الجمهور، وإدارة النشاط الاقتصادي والتجاري، وأيضاً إدارة صناعة السياحة في المدينة، فيما شرح رئيس جهاز أو مكتب السياحة طبيعة عمل الجهاز فقال: إن المكتب يُعد هيئة مستقلة يديره فريق من (15) عضواً، عشرة منهم يمثلون مؤسسات القطاع الخاص العاملة في السياحة، وخمسة من البلدية ويرأس المكتب عمدة المدينة - أو رئيس البلدية، وتقدم البلدية للمكتب نصف ميزانيته والنصف الآخر من إيراداته الذاتية، وقد كان الدكتور علي الغبان يتوقف ليشرح للوفد تجربة المملكة في تأسيس أجهزة السياحة ومجالس السياحة في المناطق وتشابهها مع الوضع في فرنسا. بيوت بلون الأرض المحطة التالية كانت مدينة أفنيون التي انتقل إليها المقر البابوي في القرون الوسطى حيث زار الوفد القصر البابوي الذي بني في القرن الرابع عشر الميلادي، وجسر المدينة المصنف ضمن قائمة التراث العالمي لدى اليونسكو، وبعد الغداء الذي كان في مطعم ريفي داخل إحدى المزارع، زار الوفد مدينة «آرل» التي نجحت في استثمار آثارها التي تعود إلى الحقبة الرومانية مثل المسرح الروماني والحلبة الرومانية القديمة لتنظيم فعاليات ثقافية وسياحية تستقطب السياح من كل أنحاء العالم، والتقى الوفد بمسؤولي السياحة والبلديات في المدينتين حيث دارت نقاشات حول طبيعة العلاقة بين البلديات وأجهزة السياحة وسبل التنسيق بينهما. وفي الطريق إلى المدينتين كانت القرى الصغيرة التي مررنا بها مثل «فينيل» و«لوغمغا» و«غورد» نماذج رائعة للتواؤم بين البيئة وأنماط العمارة حيث كانت جميع المنازل مبنية بالحجر والقرميد ومدهونة باللون الترابي الذي يسمى هنا «لون الأرض» في توافق رائع مع الغابات والبيئة المحيطة بها ولا توجد اي مبان رخامية او مطلية باللون الابيض او الالوان الأخرى التي تسبب تشوهاً بصرياً. مصارعة ثيران بدون دماء في منطقة «الكامارغ» اطلع الوفود على نموذج رائع للسياحة الزراعية والبيئية؛ حيث تم تنظيم برنامج سياحي للوفود الى احدى مزارع المنطقة التي تمتلكها وتديرها عائلة تتكون من الاب والام والابن وزوجة الابن التي تركت عملها في المحاماة لتعمل في استثمار مزرعة زوجها وعائلته سياحياً حيث توفر لها السياحة مصدر دخل افضل من المحاماة كما تقول، وكان البرنامج يشتمل على عرض للخيول والاطلاع على الابقار الوحشية التي تم الاحتفاظ بها في بيئتها الطبيعية دون اي تدجين ولذلك بقيت على وحشيتها بحيث تستفيد منها الأسر الكامارغية في السياحة والمصارعة، وقد شاهدنا عرضاً لمصارعة الثيران التي تختلف في طريقتها وقوانينها عن مصارعة الثيران الاسبانية حيث يتم اطلاق ثور وحشي في حلبة يتواجد فيها عدد من المصارعين الذين يحاولون مباغتته لنتف جزء من الشعر الموجود في ناصيته ومن يستطع ذلك يعد فائزاً اما اذا مضت ربع ساعة ولم يتمكنوا من ذلك فإن الثور يكون فائزاً، ثم تناولنا العشاء في مطعم المزرعة حيث كانت الوجبة من المنتجات الزراعية الطبيعية التي تزرع هناك، واشتمل العرض ايضاً على عرض فلكلوري قدمته فرقة شعبية من المنطقة.. صاحب المزرعة قال لنا ان نصف دخل المزرعة يأتي من السياحة بينما يأتي النصف الآخر من الزراعة وتربية الخيول والابقار. ورش عمل داخل الباص في الباص - اثناء التنقل بين المدن - كان المهندس محمد المخرج رئيس بلدية الطائف ورئيس الفريق يدير حلقات نقاش مثمرة بين اعضاء الفريق الذين كانوا يحاولون ربط ما شاهدوه مع واقعهم في المدن والمحافظات التي يعملون فيها؛ حيث كان المهندس عبدالله المسند من بلدية تبوك يناقش امكانية الاستفادة من تجربة جادة «ميرابو» لتطوير الجادة التي انشأتها بلدية منطقة تبوك، بينما قال المهندس سعد الشهري رئيس بلدية منطقة نجران انه سيحاول اقناع بعض المستثمرين في المنطقة بالاستفادة من بعض المزارع وتحويلها الى نزل ريفية ومطاعم على غرار ما شاهدناه في سانت ريمي، وافنيون، وكاركسون. المهندس صالح الدميجي طرح رؤية جريئة حينما قال: لقد رأينا من خلال هذه الزيارة ان التراث العمراني ثروة اقتصادية يمكن استثمارها، ومجتمعنا فرط في الكثير من هذه الثروة، وربما كنا في البلديات في فترات سابقة نتحمل جزءاً من المسؤولية حيال ذلك، وعلينا الآن ان نحرص على الحفاظ على ما تبقى من هذه الثروة وان نحسن توظيفها. وعندما زرنا قرية «غورد» التي تعد نموذجاً رائعاً للبناء بالحجر قال الأستاذ غازي بدر رئيس محافظة المخواة انه تذكر قرية ذي عين التي يمكن تهيئتها لتصبح قرية سياحية مشابهة لهذه القرية، وقد اخبره د. علي الغبان ان لدى الهيئة مشروعاً لتطوير «ذي عين» يتضمن تطوير ساحة القرية وتجهيز مطل مشابه لمطل قرية «غورد». فان غوخ اهم منتج سياحي في اللقاء الذي تم مع عمدة قرية «ان ريمي دي بروفانس» التي يبلغ عدد سكانها 10,000 شخص ويزورها 650 ألف سائح في العام كانت الاجابة عن سؤال حول اهم منتج سياحي للمدينة هي: «فان غوخ» وتقصد الرسام العالمي الشهير الذي قضى في القرية سنته الأخيرة، ورسم خلالها 150 لوحة من اجمل لوحاته، والآن مئات الآلاف من السياح يأتون الى هذه القرية سنوياً ليطلعوا على البيت الذي عاش فيه، والشيء ذاته بالنسبة لمدينة «إيكس إن بروفانس» التي حولت بيت الرسام العالمي «بول سيزان» الى معلم سياحي يجتذب الكثير من السياح من كل انحاء العالم.. هذه الاجابة التي لم يتوقعها الوفد اثارت نقاشاً حول السبب في عدم استثمار مدننا وقرانا للاحداث والشخصيات التي عاشت فيها سياحياً مثلاً: عنترة بن شداد في عيون الجواء، ومجنون ليلى في الافلاج، وحاتم الطائي في حائل، وكذلك الاحداث التاريخية مثل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرها. ومن المواقع المهمة التي زرناها في «سانت ريمي دي بروفانس» موقع اثري لمدينة رومانية يعود تاريخها الى ما قبل ميلاد المسيح، وقد كان الموقع نموذجاً لتهيئة المواقع الاثرية للسياحة؛ حيث عملت ممرات آمنة للسياح بعد حفر الموقع ليتمكنوا من التجول في المدينة، وكان هناك مرشد سياحي يقدم شرحاً عن طبيعة الموقع وتاريخه، كما كان هناك كشك يقدم وجبات خفيفة معمولة بالطريقة التي كان يعملها الرومان قديماً، وتديره باحثة متخصصة في الاكلات الرومانية حيث منحتها البلدية الموقع بإيجار رمزي، وكان رئيسا بلدية نجران وتيماء مهتمين جداً بطريقة ادارة الموقع وتهيئته كون مدينتيهما تحتويان على مواقع اثرية عدة ومن ثم يمكنهما الاستفادة من تجربة تطوير هذا الموقع. كاركسون تستقبل 3,5 مليون سائح سنويا المحطة الأخيرة في الزيارة كانت مدينة «كركاسون» التي تمثل السياحة مصدر دخلها الاول بعد ان حولت معالمها السياحية الى متحف مفتوح للحضارات والشعوب الذين تعاقبوا على هذه المنطقة ومن بينهم الغال والرومان والعرب والافرنج، وقد زار الوفد عدداً من المعالم السياحية في المدينة من بينها البلدة القديمة، وقصر الكونت وغيرها. وفي اللقاء الذي تم مع عمدة المدينة اشار الى ان عدد سكان المدينة قبل قرن من الآن لم يكونوا يزيدون عن ألف شخص، وبفضل الله عز وجل ثم بفضل السياحة تحولت الى واحدة من اهم المدن السياحية في جنوب شرق فرنسا، واصبحت تستقطب السياح من كل انحاء العالم حيث يصلها اكثر من 3,5 مليون سائح في العام، بينما يستقبل مطارها اكثر من 550 ألف سائح من اوروبا ينفقون ما يزيد عن (450) مليون يورو.