كان من فضائل انتهاء الشكل الأعنف للصراع العنصري في جنوب افريقيا، وحصول السود على حقوقهم وعلى السلطة في ذلك البلد الذي كانت العنصرية فيه وصمة عار حقيقية على جبين القرن العشرين، ان كشف عن وجود أدب رائع يكتبه مؤلفون من البيض، أخذ على عاتقه في معظم الأحيان الدفاع عن السود والتنديد بكل ما يتعرض إليه اصحاب البلد الأصليون في بلدهم. ومن هنا لم يكن صدفة ان ينال عدد من هؤلاء الكتاب، شهرة عالمية خلال العقدين الأخيرين، ناهيك بجائزتي نوبل، مُنحت إحداهما لنادين غورديمر، والثانية للكاتب الذي كان يقل عنها شهرة، غويتزه. غير ان هذين لم يكونا كل الكتاب الجنوب افريقيين البيض الذين وقفوا الى جانب قضية السود، انطلاقا من مواقفهم العادلة، ولكن ايضا انطلاقا من الأساليب الإنسانية التي اتبعها السود في نضالاتهم، تحت زعامة بطل استثنائي يدعى نلسون مانديلا. فهناك آخرون ايضا، منهم دوريس ليسنغ ومنهم برايتن برايتنباخ، وأندريه برنك الذي كان على الأرجح ولا يزال، أصغرهم سنا وأكثرهم راديكالية، من الناحية السياسية... ولكن خصوصا من الناحية الفنية. وإذا كان اندريه برنك قد كتب الكثير من الروايات التي لم تضعه فقط في صف الكتاب الملتزمين، بل كذلك في صف الكتاب الكبار، وحوّل بعضها الى افلام سينمائية («موسم ابيض وجاف» من اخراج اوجان بالاشي وتمثيل الراحل مارلون براندو)، فإن روايته الأشهر والتي اثارت اكبر قسط من السجال كانت «صمت مقلق» التي صدرت للمرة الأولى في العام 1982. والسجال هنا لم يكن فقط بسبب النظرة الحادة التي ألقاها برنك من خلال الرواية على قضية الاستعباد واسترقاق السود، بل كذلك بسبب الشكل الروائي الطليعي الذي اختاره الكاتب لعمله وبدا بالنسبة الى البعض محمّلاً بشيء من الالتباس... الذي -قالوا- تجاوز رغبات الكاتب نفسه، ما جعل موضوعه يفلت من يده بعض الشيء... وهو على اية حال، قول عاد النقاد واستنكروه تماما بعد ذلك. المهم في الأمر ان «صمت مقلق» اتت في ذلك الزمن الصاخب لتفتح العيون مجددا على ما كان يعتبر «قضية القضايا» في ذلك الحين: قضية السود والتمييز العنصري والعبودية، ولتقول ان الأدب الملتزم صاحب القضية يمكنه ان يكون ادبا غير ممل وغير محشو بالأفكار والشعارات ايضا. «الى حد ما يشبه اسلوب «صمت مقلق» اسلوب فيلم «راشومون» للمخرج الياباني الكبير اكيرا كوروساوا، حيث ان لدينا هنا حدثا اساسيا، لكن الرواية ترويه لنا في شكل متعدد الأصوات، إذ ان كل فصل من فصولها يقدم الحدث، ولكن في كل مرة في شكل مختلف جذريا... ما يدفع القارئ الى التساؤل في نهاية الأمر عما اذا كان الجميع يروون الحدث نفسه حقا، ام ان ما امامنا إنما هو مجموعة احداث عاش كل شخص واحدا منها وأتت متزامنة ومتشابهة في مجرياتها في نهاية الأمر؟ موضوع الرواية وجوّها في شكل عام، يدوران من حول ما حدث حقا في العام 1824، حين قامت حفنة من العبيد السود بمهاجمة معلميهم من الأفريكانز (الجنوب افريقيين من ذوي الأصول الهولندية او الألمانية) وقد سئموا انتظار تطبيق قوانين حظر الرقيق التي كان أسياد البلاد الإنكليز قد وعدوا بتطبيقها... وهكذا تبدأ الأحداث الروائية وسط الصمت المطبق في منطقة ريفية... حيث تطالعنا الشخصيات المختلفة واحدة بعد الأخرى، نساء ورجالا، سودا وبيضا، وهم من افراد جماعة واحدة كانت تعيش في تآلف -سندرك لاحقا انه كاذب- بين السادة والعبيد. وهنا، اذ تندلع تلك الثورة، تتصاعد ردود الفعل عليها وتوصيفها، والتعبير عن التعايش معها بين كل شخصية وأخرى... لتروح كل شخصية راوية لنا وجهة نظرها وكيف ترى هذه الأحداث نفسها. ومن بين هذه الشخصيات يبرز خصوصا نيكولا وبارند، وهم سيدان، والعبد غالنت اخوهما في الرضاعة، ثم ماما روزا العجوز وأستر البيضاء المتمردة... ان هذه الشخصيات وغيرها تعيش الأحداث، كبيرة كانت ام صغيرة وترصدها بأعين متنبهة معنية، ثم تروح كل شخصية متحدثة عما تعيش، فإذا بنا امام رهط من الأحداث، وأمام تنوع في الرؤى لا يكشف الأحداث نفسها بمقدار ما يكشف توجهات الشخصيات وعواطفها الحقيقية... وكل هذا يكشف لنا نحن القراء ما يراه الكاتب نفسه من استحالة التوفيق بين كل مكونات هذا المجتمع، بين السود والبيض، بين النساء والرجال، بين الكبار والصغار، بين المتعلمين والأميين. ولعل المفتاح الأساس في هذه الرواية ككل هو تلك العبارة التي تطلقها استر، عن قصد، اذ صارت بفعل التقارب زوجة لبارند، حين تقول: «الحقيقة ان ليس ثمة ما يقلقكم في واقع اعتاق عبد من العبيد، إلا حين تكتشفون مدهوشين ان هذا العبد إنما هو كائن انساني اولا وأخيرا... كينونته الإنسانية هذه وقد اصبح حرا، هي ما يرعبكم... وفي مثل هذه الحال اتساءل: كيف سيمكن الرجال ان يفكروا بالعبيد بهذه الطريقة -أي بكونهم كائنات بشرية- اذا كانوا عاجزين حتى اليوم عن ان يتصوروا ان النساء انفسهن، كل النساء، كائنات بشرية؟». ومن مثل هذه المواقف، بقلم اندريه برنك، سنتذكر، ان تفوّق الرجال على النساء، لم يأت دخيلا على مثل هذا المجتمع بل هو امر يتعلمه نيكولا وبارند منذ طفولتهما، عبر صفحات الكتاب المقدس الذي يقرأه عليهما والدهما. وانطلاقا من هنا ألا يضحي خارجا عن المألوف، كما يتساءل برنك في روايته، ابداء الدهشة امام علقة بالسوط ينالها العبد غالنت حين يبدي من الاحتجاج على سلطة السادة عليه، الى درجة انه يرغب بدوره في انتعال حذاء مثل الذي ينتعله «أخواه» البيض في الرضاعة؟ من خلال مثل هذا الرصد، ومثل هذه التفاصيل، يرسم اندريه برنك بكل جرأة صورة لمجتمع البيض المتخلفين -صحيح ان الأحداث تدور خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن هذا الابتعاد في الزمن لا يمكنه ان يخدع احدا، فبرنك يتحدث عن الحاضر لا عن الماضي بكل تأكيد- وهو يرسم في طريقه صورة لعيش الخوف في شكل دائم من هؤلاء البيض، الذين يدهشهم ما يحل بهم... ويدهشهم خاصة ان يكتشفوا ان عبيدهم السود ليسوا «الحيوانات الهادئة الأليفة» التي كانوا يعتقدون! لقد حققت هذه الرواية لأندريه برنك (ولد في العام 1939) شهرة كبيرة، لكنها سببت له مشكلات اكبر مع ابناء جلدته من البيض الذين صعب عليهم تحمل راديكاليته، مثلما كانوا فعلوا مع روايات اخرى له مثل «اسود من الليل» و «جدار الطاعون» و «شائعة المطر» وغيرها من أعمال لا شك في انها ساهمت في تعزيز الوعي الغربي العام بمأساة السود في جنوب افريقيا، ما ساهم بالتالي في السعي لإنهاء تلك المأساة. [email protected]