مع نهاية العصور الوسطى فرت أمريكا من العالم القديم، مبيتة حلماً ألا تعود له ثانية، نفخت الريح في أشرعتها ولم تلتفت إلى الخلف حيث عالم البطش والجوع والحروب والأوبئة ومحاكم التفتيش التي تتخذ مشاعل من حريق أجساد الساحرات..إنه العالم القديم. خلّفت الموانئء تزدحم بسفن القراصنة، وتأبطت أحلام التنوير والنهضة، اصطحبت معها مدونات ونتاج حروب العقل مع الخرافة، ومفاتيح مملكة الأرض، وشعلة عصر النهضة من فولتير وجان جاك روسو وإيمانويل كانت، وناولتها إلى آباء أمريكا العظماء جيفرسون واشنطن لنكولن، الذين انغمروا (بيوتيبيا) العالم الجديد.. والحلم الأمريكي . اصطحبت أمريكا في هجرتها باتجاه العالم الجديد الكثير.. سر عجلة البخار، وآلة المصنع، شجرة عيد الميلاد، وأواني المائدة، ولكنها لم تصطحب معها (البابا) خلفته في كاتدرائيات العالم المندثر وحيدا مكتهلا. وبقيت تبحر كسفينة هائلة وسط عباب المحيط متحدرة من خليط من الأعراق بعضهم قساوسة، والبعض الآخر قراصنة، تحمل قلب أوروبا النابض بإشراقات عصر النهضة، لكن دون باباواتها... ولأن المهاجر سيشعر حتما بالوحشة والخوف في العالم الجديد الخالي (إلا من صيحات السكان الأصليين البرابرة) حيث لا يوجد (البابا) كدثار روحي فقرر أن يخلق واحدا خاصا به. وخلقت أمريكا هوليود (بابا) أو أباً لها، يرتدي أحيانا قبعة ميكي ماوس المضحكة، وأحيانا أخرى بزة سوبرمان الخارقة، باتت هوليود تحكي قصص المهد، وبطولات الأساطير فوق أرض الخيال التي تحل فوقها كل المشكلات. هوليود تخبر أمريكا كل يوم بأنها الأقوى والأجمل والأكثر سطوة إلى الدرجة التي لم تعرف فيها الطريق خارج الحكاية أو الفيلم، وظلت هناك كطفل غرّ بحجم هائل . ظلت أمريكا داخل شاشتها الفضية، فرعاة البقر (جون وين- ورونالد ريغان)، يقتلون الهنود الحمر ويجهزون الأرض للمستعمر الأبيض، وعبر حروب مركبات الفضاء تغلبت على الحرب السوفياتية الباردة، وحروب (رامبو) ناورت بها جمهوريات الموز وعصابات المخدرات في اللاتينية .. وسواهم من أشرار العالم الذين يزعجون الأخيار وبناة الحلم الأمريكي .. لكن المفارقة هنا أن أمريكا تخوض حروبها داخل الشاشة الفضية فقط. أمريكا طفل هائل الحجم ببزة عسكرية، لم يرث مخاتلة ومراوغة جده الإمبريالي البريطاني الذي كانت تسبق جيوشه عيونه، تمهد الطرق وتعقد التحالفات وتسلب بيد ما تعطيه باليد الأخرى، الجد الإنجليزي الماكر يؤمن بالنفس الطويل والتريث، زلزل امبراطوريات.. وفرّق فساداً . لكن الطفل الأمريكي قليل الصبر لم يعرف إلا قوانين اللعبة الهوليودية، تورط بحرب باردة طويلة خرج منها بنصف نصر، وفي فيتنام خرج بقلب مليء بثقوب الأحزان، في اللاتينية الأمريكية نقل الحرب فيها من الأمازون إلى شوارع المدن الأمريكية، ولأن صفعة سبتمبر 11 كانت حارة انطلقت الإمبراطورية ببارجاتها، وفيالق المارينز، وطائرات الشبح والتهمت العراقوأفغانستان أمريكا الطفل الأخرق الهائل الحجم يعيش داخل شاشة فضية.. لا يملك النفس الطويل في أفغانستان بعد حرب طويلة وخسائر هائلة بدأ مباحثات سرية مع طالبان، وفي العراق بعد نصف مليون من القتلى وملايين المشردين، وتدمير البنية التحتية لموطن أعرق الحضارات البشرية، وطوفان السيارات المفخخة التي حولت المدن العراقية إلى مدن أشباح، وقعت أمريكا اتفاقا مع إيران لأنها ملت من لعبة لا تمتلك النفس الطويل الذي يأخذها إلى أشواطها الأخيرة . أمريكا الإمبريالية طفل يعيش داخل شاشة هوليود (عرابته ومعلمته) وعندما يخرج إلى العالم الخارجي حتما لن يكون أبوه برفقته.. لذا سيدمر كثيرا وسيعبث ويتعثر ويقامر بحلفائه الاستراتيجيين والتقليديين.. سيقامر بكل شيء لأنه تعود أن يعيش وسط الشاشة.. كبطل، ولا يمتلك لياقة المسافات الطويلة..