المعركة الفكرية ما زالت محتدمة ومستمرة بين تيار الاعتدال وتيار التشدد. ويجب الاعتراف بأن الجهود لمواجهة هذا التطرف فكريا ما زالت ضعيفة وهشة وغير مدروسة بدليل تلك النماذج التي استضافها الزميل داوود الشريان في برنامج (الثامنة) الحادثة التي تمت بالصدفة عام 2003، وأعني بها انفجار تلك العبوة الناسفة التي كان يقوم بتصنيعها أحد الإرهابيين في منزله بحي الجزيرة شرق مدينة الرياض، كشفت بأن لدينا فكرا متطرفا خطيرا كان مختبئا ثم ما لبث ان طفا على السطح ليتغلغل في مجتمعنا. ولعل الشجاعة الأدبية هنا تقتضي منا الاعتراف بأننا ساهمنا بدور ما في ظهوره من دون أن نعلم، فالقطاعات الحكومية المعنية بالشباب لم تكن قادرة على احتضانهم قبل انزلاقهم في عالم ضياع الذات، كما أن الرعاية الأسرية لم تكن فاعلة بالقدر الذي ينقذ هؤلاء الشباب من الولوج في عالم القطيعة مع عالمهم وبيئتهم وأسرهم. غير أن سقوط معتنق هذا الفكر في يد العدالة لا يعني بالضرورة تلاشي الفكر ذاته، وقد تطلب الامر بضع سنوات للسلطات الأمنية السعودية لكي تقضي على تلك الخلايا ميدانيا، في حين ان المعركة الفكرية ما زالت محتدمة ومستمرة بين تيار الاعتدال وتيار التشدد. ويجب الاعتراف بأن الجهود لمواجهة هذا التطرف فكريا ما زالت ضعيفة وهشة وغير مدروسة بدليل تلك النماذج التي استضافها الزميل داوود الشريان في برنامج (الثامنة) ما يدفعنا للتوقف عندها وتأملها فليس المهم أسماء المتهمين بقدر ما يهمنا هو العقل وآلية التفكير ومضمون الرؤية. تلك العقليات لم تكن مفاجئة لمن يعرف خلفيات ذلك الفكر. كونه قديما/ جديدا في التاريخ البشري، ولعل حالة وليد السناني جاءت كنموذج يؤكد صحة ما ذهبنا اليه. فالذي يتقوقع وينغلق على ذاته خوفاً من الحاضر والمستقبل، إنما يمارس سلوكاً واضحاً يتمثل في (الرفض)، وعلى رغم انه موقن أن عليه المواجهة، إلا أن عقليته لا تتجاوب مع الجديد (فكراً كان أم سلوكاً) كونه يعتقد انه يعرف ما لا يعرفه الاخرون، وانه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولذا فإن الحل، بحسب تصوره، ممارسة سلوك الرفض والتلذذ بالحلم النوستالجي، فالنوستالجيا هي حال فكرية برفض الواقع الراهن، والتمسك بوضع أو بفترة ماضوية محددة. هذه عقلية تعاني ازمة فكرية وتعيش ذهنية القرون الوسطى وتنتمي لمنظومة الذين يخافون من حركة الإسلام في الجانب الثقافي والفكري كونهم لا يملكون الثقافة التي من خلالها يستطيعون مواجهة التحديات، مع ان الإسلام واجه خلال تاريخه تحديات ثقافية، واستطاع أن يظل قوياً، وأن يؤصل فكره وأن ينفتح، ما يعني ان أولئك بحاجة إلى قراءة جديدة من خلال المعطيات التي اكتسبها الإنسان المعاصر ليتناغم مع عالمية الإسلام وصوره الشمولية. ولذا تجد على سبيل المثال ثمة قاسم مشترك بين حديث السناني وطروحات تنظيم القاعدة. طبعا ليس المقصود هنا ان يكون هناك ارتباط عضوي وتنظيمي ما بينهما وليس مهماً ان يكون كذلك بقدر ما ان المهم اننا وصلنا لنتيجة ترى بأن التشدد والغلو والتزمت المقيت هو ما يجمع الطرفين، بدليل انهما "يكفران النظام الحاكم في المملكة والعاملين في القطاع العسكري، ويريان جواز قتل المسلمين المدنيين والنساء والأطفال" في العمليات الارهابية. ولكن ما الذي يدفعه للتمسك بآرائه بعد كل هذه السنين في حين ان آخرين من اقرانه تراجعوا واقتنعوا بأنهم كانوا مخطئين. يبدو ان المسألة تكمن في قدرة الفهم ومستوى الوعي لكل شخص منهم. وبمقارنة بسيطة يمكن كشف الفارق الكبير في المستوى الفكري والثقافي والعقدي بينه وبين زميليه الفراج والعبسي. صحيح أن القاسم المشترك بين كل تلك العقليات هو امتلاك الحقيقة المطلقة في مرحلة من المراحل الا ان حالة السناني تؤكد ان تلك الحالة ما زالت متمكنة منه ولا يستطيع الفكاك منها. وهذا الشعور (اللذة) يعني لصاحبه الخلاص من المعاناة التي تجتاحه سواء أكانت فكرية أم نفسية أم اجتماعية. مع ان عقله قد اختطف وليست هذه المشكلة هنا لان الكارثة الفعلية هي في استمرار ذلك الشعور وتلك القناعة وهنا يكمن الفارق ما بين التراجع ورفضه. فالإصرار على اليقينية والصواب هو قمة الجهل مع أن العقل عادة ما يعمد إلى ترشيد السلوك وفلترة النزعات الانفعالية، غير أن ما يحدث مع ذلك النموذج هو شعور اللذة على قدرة العقل. غير ان توبة الشخص وتراجعه واعترافه بالخطأ يعود لتفوق العقل ومسكه الزمام في لحظة معينة، في حين ان الرافض لتغيير آرائه لا يمر بتلك الحالة ويصر على قناعاته حتى لو اكل عليها الدهر وشرب حيث تأخذه العزة بالإثم بل حتى انه لا يستمع لوخز ضميره من حالة النفاق والتناقض والكذب التي يعيشها. مثلا اعترف السناني بانه لا يوجد في منزله تلفاز ولا يسمح لأبنائه بمشاهدته، الا انه يشاهده كما قال في السجن والذي يحتوي على أكثر من مئة قناة. وهنا يكمن الفارق ما بين الانفعالي والعقلاني، فالأول لا يمكنه التنازل عن افكاره رغم علمه بخطأ ما يقوله، في حين أن الاخير يتراجع، كونه يدرس النتائج قبل الموقف ولا يخجل من الاعتراف بخطئه. صفوة القول، ان الفكر القاعدي ما زال ينخر في عظم المجتمع ما يعني ضرورة مواجهته بأسلوب نقدي معرفي، وليس باجترار مقولات عقيمة وآراء دفاعية، لان الفكر لا يواجه إلا بفكر مماثل، برغم ممانعة البيئة الحاضنة له ما يجعل مهمة اجتثاثه صعبة ولا أقول مستحيلة!