في زمن الأزمات ولكل أمة زمان محن ومشكلات يفتش الناس عن مخارج تسبغ عليهم الأمن في مواجهة الخوف... والشبع في مواجهة الجوع... والكرامة في مواجهة ما يجرحها أو يهددها. ويتعلم الناس، فيما يسعون إلى ما يحقق لهم الأمن والطعام والكرامة، يتعلمون من التاريخ وحكمة الحكماء أنه ليس كل أمة تمر بها أزمة، أو تحل بها هزيمة، تعبر هذه الأزمة أو تعتبر بسواد الهزيمة، تتعمق أسبابها لتخرج منها إلى أفراح النصر، ولهذا فكثيراً ما رأينا شواهد وبقايا لأمم سادت ثمَّ بادت، وأخرى اغتنت ثمّ افتقرت. لا ينبغي أن يغيب عنا لحظة في غبار هذه الأزمة الرهيبة وفي متاهات سراديبها، وفي جلجلة الأحداث، وانهمار الحلول المقترحة.. لا ينبغي أن يغيب عنا (مفتاح الأزمة)، ونحن نتساءل في كل يوم: هل إلى خروج من سبيل؟ ** ** ** تلك أمم أعطت ظهرها للحكمة والقوانين الكونية الصارمة فمحيت، ومن ثم تم استبدال سيادتها بسيادة أمم وشعوب أخرى، وما بقي من بقي وساد من ساد إلا لأنه انتهج في نفسه عقيدة وفكراً وحركة نهجاً يخالف نهج الأمة الهالكة. كذلك رأينا والحق أحق أن يتبع ويعتبر به أمماً لم تخاصم التاريخ ولم تتنكر للقوانين الكونية تجتاحها الجوائح والنكبات الهائلة فإذا بها تلملم جراحها وتسترد روحها وعقلها، فإذا بها ثابتة القلب، واثقة الخطى تتجاوز جحيم الحفر والشباك المنصوبة التي تهلك الأنفس والأموال والثمرات. ** ** ** وإذا بشعوب بفضل حنكة قياداتها تنطلق لإعداد مشروع الاسترداد، استرداد كرامتها، وأمنها، وحريتها، ورزقها، وسائر أحوالها. ولم يكن انبعاثها الشامل (شعارياً، كلامياً فقط) وإنما ارتكز على صدق الظاهر والباطن، وشجاعة الموقف والعمل الجاد بدءاً من الممارسة اليومية في الجزئيات (وهي بالغة الأهمية) وانتهاءً بالمواجهة الصادقة والشاملة في القضايا العامة، بكل الحزم وبكل العزم ودقة التنفيذ. ألم تعطنا سوابق من تاريخنا الثقة الكافية في مشروعات الاسترداد السابقة التي قمنا بإعدادها ثم تجسدت في مشاهد العبور المنتصر على التتار، والظفر الكبير على الصليبيين. ** ** ** بكل ثقة صادقة شريفة تكمن الإجابة عن الأزمة المعاصرة في الآتي: خلف كل أمة عظيمة... تربية عظيمة. وخلف كل أمة متنحية.. تربية رديئة مهزومة.. إنها التربية السليمة كلما لاح: انتصار وعزة ومنعة.. إنه ضياع التربية كلما حدثت: هزيمة وأمة تتدهور.. وبتقليب البصر وتعميق البصيرة في العالم من حولنا نجد أن العالم إذا أقبل منتصراً أو أدبر هارباً كان كل ذلك حصائد التربية إيجاباً أو سلباً، ألم يقل ذلك الزعيم الغربي حين سبقت دولة منافسة دولته في غزو الفضاء (لقد نجحت مدارسهم، وأخفقت مدارسنا). ** ** ** وهكذا.. خلف كل أمة عظيمة تربية عظيمة.. وجوهر كل تربية عظيمة (معلمون عظماء) وتعليم نوقره ونعززه ونقدسه تقديساً. معلمون نشير لهم في فصولهم وبين أبنائنا قائلين لهم: أنتم منتمون مؤهلون، مخلصون، صادقون، عالمون. وطلاب نقول لهم: أنتم عاكفون، ساهرون، طموحون. الجميع معلمون وطلاب يرونها معركة حياتهم... ومن ثم حياة مجتمعهم. يعلَّمون ويتعلمون وفق مناهج لا تميت القلب ولا تقبر العقل، بل تقدحهما فإذا التربية منظومة تتفجر من خلالهما تفجيرا. ** ** ** لا يكفي اليوم القول : كان الخلفاء الراشدون وكنا.. وكانت دمشق بني أمية.. وكنا.. وكانت بغداد العباسيين.. وكنا.. وكانت قاهرة المعز... وكنا.. ثم نتلو.. ثم نتلو.. آخر ما كان من أنباء جحافل الأندلس الظافرة على مشارف نهر اللوار بفرنسا. ولقد كانوا لنا آباءً صادقين.. ولا نستطيع أن نهدرهم فضلهم وتألق إنجازهم، وألا نستفيد من تجاربهم العظيمة، وإلا كنا ظالمين منكرين جاحدين غافلين عن عطاءاتهم. إن مما ساعدهم على تحقيق ذلك أنه لم تكن عندهم أزمة هوية وانتماء، ولا خاضوا في أزمة المثقفين والثقافة التي نعيشها اليوم، ولا دُحضوا وداخوا في كل ما يبرق في سماء فكرنا مختلفاً ألوانه... من اتهام بعضنا للآخرين منا بالتغريب والعلمانية، ومن سوء الظن وضحالة الفكر عند الجامدين والمنكرين الرافضين لكل تجديد نافع، سائلين مستنكرين : إلى أين؟ ومن أين ؟ ولكن.. وإذا.. تلك أمة قد خلا لها ما كسبت، ولقد كان عظيماً بكل المعايير، ولكن أين ما كسبنا؟ وكيف الخلاص من هذه الكوابح التي تقهقر تقدمنا؟ ** ** ** إذا كانت أزمة أمتنا العربية الحالية أزمة حادة، وربما غير مسبوقة، فإن الوصف الأمثل فيما يبدو لي أن خلف هذه الأزمة، أزمة تربية، وأن جوهر الأزمة التربوية: أزمة قلة كفاءة بعض المربين من المعلمين، وإدريي المؤسسة التعليمية. ولذا.. لا ينبغي أن يغيب عنا لحظة في غبار هذه الأزمة الرهيبة وفي متاهات سراديبها، وفي جلجلة الأحداث، وانهمار الحلول المقترحة.. لا ينبغي أن يغيب عنا (مفتاح الأزمة)، ونحن نتساءل في كل يوم: هل إلى خروج من سبيل؟؟ يجب ألا يخفى علينا سبيل الخروج من سراديب الأزمة مهما اشتدت وطأة الظلام فيها. هذا ومن باب تضييع هذا المفتاح العظيم في الزمن الحاضر الخطر أن ننظر للتربية في ظل الأزمة على أنها بند من بنود الإنفاق وليس استثماراً لا بديل له للخروج من الأزمة أو أن ننظر إليها على أنها قضية ضمن قضايا عديدة مع أن (التربية هي قضية القضايا). ** ** ** الحقيقة تقول: أزمة الأمة العربية المعاصرة هي أزمة تربية، وأزمة التربية هي أزمة قلة كفاءة القائمين عليها وكذا معلم في كثير من الأحيان تنقصه الكفاءة، وحتى لا يحكمن أحد طوق الأزمة حولنا ويقول إن: أزمة كفاءة القائمين على التربية هي أزمة الأمة، وهي مستعصية الحل، نجيبه قائلين له: لا بد أن نعطي لعملية التربية من القداسة ما ينبغي لها، ونؤهل المربي القائد، والمعلم مزودين بتربية نبي هادٍ، ونزاهة قاض شريف، مع تجديد دائم لمعارفه ومهاراته، وراتب مجز، ونحقق له كل الحوافز المادية والمعنوية، وبهذا نكسر طوق هذه الأزمة، ونحطم حلقاتها بالعمل الدءوب لتحقيق التربية السليمة المنشودة. ثم إنه إذا كان (تربية بعض الوقت لبعض الناس لا تجدي، وأن تربية كل الوقت لبعض الناس لا تصد أزمة فلا مفر أن نربي كل الوقت كل الناس ) وبصياغة أخرى علينا العمل على أن نكون معلمين دائماً مجددين، متعلمين أبداً لكل نافع وحديث. ** ** ** وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأَمِدَنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.