قد لا يتمتع الانسان بقوة الفيل، وسرعة الفهد، وبصر الصقر، وسمع البومة، والرؤية بالظلام كالخفاش؛ ولكنه يعوض كل هذا بدماغ قادر على منحه قوة المكائن، وسرعة الصواريخ، ووضوح التلسكوبات، ورهافة الميكروفونات، وقدرة المناظير الليلية.. خذ كمثال قوة الإبصار التي تعد متواضعة لدى الإنسان مقارنة بالطيور والحشرات والمخلوقات الليلية؛ ومع ذلك يبدو أنه المخلوق الوحيد الذي يهتم برفع رأسه إلى السماء ويحاول فهم طبيعة الكون والفضاء.. وبحسب قدراته البصرية لم يكن قادراً على رصد أكثر من 600 نجمة بالعين المجردة. غير أن الأمر تغير عام 1608 حين وضع اثنان من صانعي النظارات عدسة أمام أخرى مخترعين بذلك أول تلسكوب بصري في التاريخ. ورغم ان هذا الاختراع (الذي ظهر أولاً في مدلبيرج الهولندية) انتشر بسرعة في أوروبا إلا أن الإيطالي جاليليو هو أول من استخدمه للنظر إلى السماء مدشناً بذلك عصراً جديداً من علم الفلك ورافعاً بذلك عدد النجوم التي يراها الإنسان إلى حدود 6000 نجمة... ورغم أهمية التلسكوبات الراديوية (التي ترصد الكون من خلال الموجات الكهرومغناطيسية بدل الموجات الضوئية) إلا أن أهم ثاني إنجاز في نظري كان إطلاق تلسكوب هابل للفضاء الخارجي بواسطة وكالة ناسا الأمريكية... وفكرة نقل التلسكوب إلى الفضاء الخارجي بدأت منذ اختراع الصواريخ وغزو الفضاء؛ فكثيراً ما حلم الفلكيون بنقل تلسكوباتهم البصرية فوق الغلاف الجوي للأرض للحصول على صور أفضل للكون.. فمراقبة السماء من سطح الأرض تشبة مراقبة مصابيح الشارع من قعر المسبح؛ فالغلاف الجوي الذي نعيش في قعره ملوث وغير شفاف ويسبب انحرافاً في مواقع النجوم. ورغم ان التلسكوبات الأرضية المشهورة توضع فوق الجبال العالية أو في مناطق بعيدة عن أضواء المدن إلا أن صورها لا تصل لدقة ووضوح أي تلسكوب متواضع يوضع في الفضاء الخارجي؛ حيث تبدو الرؤية بالغة الوضوح وخالية من أي عوائق أو مؤثرات!! وهذا ماحدث فعلاً مع التلسكوب هابل الذي قدم لمعارفنا الفلكية بعد أول عشرة أعوام من إطلاقه أضعاف ماقدمته العشرة قرون الماضية مجتمعة (وهابل بالمناسبة اسم لعالم فلك أمريكي اكتشف ظاهرة توسع الكون واقترح على واشنطن تدشين مشروع وطني لنقل تليسكوب ضخم لخارج الأرض).. وبالإضافة لوجود تلسكوب هابل خارج الغلاف الجوي، يتمتع بميزتين لا يمكن للتلسكوبات الأرضية مجاراتهما: الميزة الأولى إمكانية توجيهه لمراقبة هذه المجرة أو تلك النجمة (في حين يصعب على التلسكوبات الأرضية رؤية ما يوجد على الطرف الآخر للأرض)!! أما الميزة الثانية فهي أن هابل يعمل كعين تخترق الزمن وترى نجوماً وأجراماً من الماضي قد تكون اندثرت في عصرنا الحاضر.. فبعض الصور التي التقطها تعود لنجوم تبعد عنا بلايين السنيين الضوئية؛ وحين يلتقط صوراً على هذا البعد فكأنما يرى حال تلك النجوم كما كانت قبل بلايين السنين (حين انطلق ضوؤها باتجاهنا لأول مرة) وليس حين وصل إلينا في عصرنا الحاضر!! ... رغم أن الأمريكان مثل بقية البشر يتميزون بضعف البصر، ولكنهم عوضوا ذلك بتلسكوب يرى ما يحدث على بعد 14 مليار عام!!