لقد أصبح النقد الذاتي (والذي هو شرط تجاوز الذات لذاتها، ومن ثم لواقعها) من أصعب الأمور في مجتمعاتنا المنغلقة على أوهامها. لا يفهم النقد على أنه مقاربة معرفية كشرط أولي للتجاوز ، وإنما يفهم اختصارا وابتسارا على أنه هجاء وتبخيس، وربط بواقع جبري لا يمكن تجاوزه بحال لن تفهم نفسك أبدا ك(أنا) مستقلة؛ إلا عندما ترى نفسك في مرآة الآخر / الآخرين. يصح هذا على مستوى الأفراد، كما يصح على مستوى الجماعات. ليس المهم ما يقوله الإنسان عن نفسه؛ لأن ما يقوله الإنسان عن نفسه لا يتعدى أن يكون تصورا مُشبعا بالأهواء والتطلعات والمطامع والمخاوف بل وبالتوهمات الذاتية. المهم ما يقوله الآخرون عنه، من حيث كونهم مجموعا متعدد الثقافات، يمتلك المسافة التي تفصله وجدانيا عن موضوعه. وهو الفصل الذي يوفر الحد الأدنى من الموضوعة، كما وأنه ينطوي بالضرورة على كثير من التنوع والاختلاف الذي يضمن تعدد وتنوع زوايا الرؤية، بحيث تكون الرؤية في تبلورها النهائي تركيبية ذات طابع كلياني، يتجاوز ولو بالحدود الدنيا المقبولة علميا محدودية الأحادية الثقافية وفخاخها الإيديولوجية إلى حيث رحابة العلم بمعناه الحديث. لا أحد يجهل أن هناك فارقا كبيرا بين الخطاب الوجداني وبين الخطاب العلمي. ليس من المهم أن تحكم على أيٍّ منهما بأنه هو الأفضل؛ لأن كلا منهما ضروري في مجاله الخاص. والخلل لا يأتي من خلال الآليات التي يشتغل عليه كل خطاب في مجاله، وإنما يأتي من تداخل المجالين وتبادل الوظائف الأساسية التي يشتغل عليها كل مجال. ولأن الخطاب العلمي ليس تمظهرا طبيعيا، أي ليس فطريا تلقائيا يتكون بمحض الوجود الطبيعي الأولي؛ فإنه يحتاج إلى مراكمة الخبرات على نحو مستمر وواع. ما يعني أن الخطاب العلمي هو نتاج المجتمع المُفكر؛ بمقدار ما هو نتاج المجتمع العامل. والمجتمع العربي من أقصاه إلى أقصاه ليس مجتمعا مفكرا، كما وأنه ليس مجتمعا عاملا، بحيث بدا واضحا أنه لا يتوفر على الشروط الأولية لتكون الخطاب العلمي. في المقابل، الخطاب الوجداني هو خطاب غرائزي، بدائي، متقطع، وغير واعٍ بالضرورة. وبالتالي فهو خطاب المجتمع اللامفكر، ومن ثم اللاعامل؛ إلا أن يكون عملا عشوائيا لا ينتظم في مسيرة تراكم كمي تتغيا المتغير النوعي. ولهذا تسيّد هذا الخطاب في العالم العربي، ومن ثم، أصبح ما يحرك هذا العالَم المراهق هو محض تهويمات صبيانية، وشعارات فارغة، ومدائح فارغة، تمارس بها الذات تخدير نفسها؛ لتغيب بخمرة الوهم عن تحديات هذا العالم المعاصر الذي لا تعيش فيه إلا عبئا على الآخرين. كثيرا ما يُمارس الخطاب الوجداني تجميل صورة الذات في الواقع. لكنه يصطدم بحقائق الواقع المؤلمة التي يصعب الالتفاف عليها أو تغييبها. ولهذا يهرب هذا الخطاب إلى التاريخ، إلى التاريخ المجيد! إلى ما يشبه العالم الغيبي؛ ليُحيل إلى عالم لا يمكن الإمساك به، عالم يسهل الكذب عليه. وهذا ما حدث ويحدث منذ فجر التاريخ العربي، عندما كان الشاعر العربي الذي لا يتعدى عددُ مقاتلي قبيلته مئة مقاتل أو أكثر قليلا يقول متبجحا: ملأنا البَرّ حتى ضاق عنّا وظهر البحر نملؤه سفينا ساد هذا الامتلاء الفارغ كل مسيرة العرب التاريخية؛ إلا فيما ندر، حتى أصبح نسقا ثقافيا حاكما يمتلك القدرة على نفي ما سواه من نزعات التمرد العلمي / العقلاني. منذ الاصطدام الجارح بحقيقة التفوق الغربي أصبح هذا الخطاب الشعاراتي الفارغ مرفأ الغرقى في بحيرة اليأس، اليأس من اللحاق (ولا أقول: التفوق) بالآخر الغربي، الذي يمارس بتفوقه المطرد نفيا مطردا للذات العربية المأخوذة بأوهام التوجس المرضي. المهم، أن تسيّد هذا النسق الثقافي حوّل الخطاب العربي، حتى الثقافي منه أو ما تلبس بالثقافي! إلى محض خطاب وجداني، يتعاطى مع الحقائق المعرفية كما تتعاطى جماهير كرة القدم مع فريقها المفضل. بل ربما كانت جماهير المُشجّعين اليوم أكثر تعقلا من جماهير الثقافي أو جماهير ما يتوهم نفسه ثقافيا، فالتحليلات الرياضية الناقدة باتت تمنح عشّاق كل فريق وقفات نقدية تلامس أسباب الإخفاق في هذه المباراة أو تلك، ما أدى إلى فتح الباب لرؤية عيوب الفريق الرياضي المعشوق. بينما نجد من يمارس مثل ذلك في الشأن الثقافي يعده المشجعون لأوهام التاريخ الفارغة عدوا للتاريخ، بل وربما عدوه عدوا للأمة، ومحاربا لها في أصالتها، ومنكرا لأمجادها ! وقنطرة للتغريب... إلخ التهم الجائرة، كما حدث مع طه حسين رحمه الله . لقد نشأت أجيال لا تعرف للمعرفة دورا إلا ما يكون مديحا مجانيا للذات. أما محاولة استبصار الحقائق لذات الحقائق، أما توظيف المعرفة في مهمتها الأساسية، وهي مقاربة الحقيقة في وجودها النسبي، فهذا ما أصبح خارج نطاق الوعي لأجيال تائهة لا تفرق بين وظيفة النشيد القومي والشعر الحماسي من جهة، وبين وظيفة خطاب المعرفة (الذي قد يمارس تشريحا مؤلما وجارحا) للذات من جهة أخرى. أصبح معيار الحقيقة لدى هذه الأجيال التي تعاطت مع المعرفة كنشيد حماسي، هو مدى ما تعكسه هذه الحقيقة من أمجادٍ قابلة للتبجح بها. فإذا أكدت الحقيقة المصنوعة إيجابية الذات؛ فهي حقيقة مقبولة، وإن فضحت مفاعيل السلب في تاريخ الذات أو في واقعها؛ فهي حقيقة مكذوبة! وبهذا، فالمعيار ليس هو ما تنطق به شروط المعرفة، وإنما ما تمنحه النتائج من (حقائق) قابلة للتوظيف في الخطاب الشعاراتي الذي تلعق به الذات جراحها النازفة بعمق تخلفها الممتد على مدى تاريخها الطويل. لقد أصبح النقد الذاتي (والذي هو شرط تجاوز الذات لذاتها، ومن ثم لواقعها) من أصعب الأمور في مجتمعاتنا المنغلقة على أوهامها. لا يفهم النقد على أنه مقاربة معرفية كشرط أولي للتجاوز ، وإنما يفهم اختصارا وابتسارا على أنه هجاء وتبخيس، وربط بواقع جبري لا يمكن تجاوزه بحال. هذا الواقع الثقافي يقمع كل محاولات المعرفة الممكنة حتى قبل أن تخرج إلى الضوء، بل حتى قبل أن تتحول من فكرة إلى إرادة. يرهب كثير من المفكرين والمتخصصين في حقول المعرفة التاريخية والعلوم الإنسانية الإقدام على مساءلة الراهن، بقدر ما يرهبون مقاربة التاريخ؛ إلا مقاربة تنتهي بالمديح الصريح. من هنا، تراكمت الأوهام، وأصبحنا نجهل تاريخنا بقدر ما نجهل أنفسنا وإمكاناتنا الحقيقية. لا نعرف حقيقة أعطابنا، ولا إلى أين تتجه بنا هذه الأعطاب. فنحن نفكر بلغة الأماني والأحلام، لا بلغة الحقائق والأرقام. نكتب تاريخنا وكأننا نكتب قصائد قومية؛ فنكتب ما نتمنى أننا كنا عليه، وليس ما كنا عليه فعلا، وفي أحس الأحوال، نتعاطى مع أرقى حقول المعرفة بعقلية كاهن أو عرّاف أو واعظ غفوي. كثيرا ما كنت أتساءل عن جهود الأخصائيين الاجتماعيين والنفسانيين من الوافدين إلى جامعاتنا خلال الأربعين سنة الماضية، أولئك الذين عايشونا لسنوات قد تتجاوز عند بعضهم عقدين من الزمان. كيف قرأنا هؤلاء وفق آلية اختصاصهم؟ لماذا لم يخرجوا بدراسات علمية نقدية تتناول بُنيتنا الاجتماعية والثقافية والدينية؟ مثلا، لماذا يحجم متخصص في الدراسات الاجتماعية، وقد مكث بيننا أكثر من عشر سنوات، عن كتابة رؤيته العلمية لمجتمعنا بالتفصيل؟ وإذا كان ثمة من حرج في أن يكتبها وهو بين ظهرانينا، فلماذا لم يكتبها بعد عودته إلى بلده الأم؟ هل كان يستشعر درجات الاستياء التي ستلاقيها مثل هذه الدراسات، خاصة وأنها ستكون ذات منزع نقدي بالضرورة، ولهذا فضّل تجنب الموضوع برمته؟ لقد تميز مجتمعنا النامي بحضور مئات من المتخصصين في الدراسات الاجتماعية والتاريخة والنفسية. أقسام الدراسات الاجتماعية والتاريخية والنفسية في جامعاتنا استقبلت على مدى أربعة عقود سابقة كثيرا من البارعين في مجالات تخصصهم، بل ومن المتجاوزين لإطار التخصص إلى فضاء الفكر العام، فلماذا أحجم هؤلاء إلى درجة الصمت عن طرح رؤيتهم النقدية لمجتمعنا، خاصة وأن دراساتهم ستكون أكثر موضوعية من دراساتنا التي نطرحها عن المجتمعنا؛ لأننا طرف فيه، وجزء من مكوناته، وبالتالي؛ فمستويات التحيز لدينا ستكون أعلى. وهذا يختلف عن حال أولئك الذين لا يشتبكون اشتباكا مباشرا مع أي من مكونات هذا المجتمع، وبالتالي؛ سيكون موقفهم من هذه المكونات بكل أبعادها أقرب إلى الحياد التام. إنها لخسارة عظمى أن يأتي متخصص في أي من مجالات الدرس الاجتماعي أو التاريخي أو النفسي، ويعايش مجتمعنا لسنوات، ثم لا يقدم لنا نتائج رؤيته ولو بعد أن يستقر بعيدا عنا؛ دفعا للحرج. هناك مئات من الدراسات الممكنة فقدناها بسبب ارتفاع درجة حساسيتنا ضد النقد العلمي. ولا شك أن ذلك المتخصص لم يطرح رؤيته النقدية في مشروع علمي بسبب كابح ذاتي، نحن أحد أسبابه؛ إن لم نكن سببه الوحيد. فهو يعرف بالتجربة أن دراسة كهذه، لا بد أن تتناول أعرافنا وعاداتنا وأنماط سلوكنا ورؤانا الثقافية وتياراتنا الدينية وخياراتنا المذهبية، ورموزنا الاجتماعية... إلخ، ومن ثم لا بد أن تصدمنا بحقائق سلبياتنا التي لا نريد مواجهتها. ولأننا لم نتعود على خطاب المعرفة، فنحن لا بد أن نضيق جدا بمثل هذا النقد، وربما اعتبرنا صاحبه ناكرا للجميل، هذا إن لم نضعه في خانة الأعداء الألداء. إن ما يراه الآخرون فيك هو أقرب إلى الحقيقة مما تراه في نفسك. وهذا ما تأكدت منه من خلال كثير من الحوارات الشفهية مع بعض الأساتذة الوافدين الذين كانوا يُصارحونني بكثير من رؤاهم النقدية لمجتمعنا، وكأن أعينهم ترى ما لا نراه، أو ما لا نريد أن نراه. ولكنهم للأسف، وتجنبا لسوء الفهم يُحجمون عن كتابة هذه الآراء ونشرها؛ لتكون مجالا للتداول المعرفي. وهم معذورون في مثل هذا الإحجام؛ لأننا ألزمناهم ماديا وأدبيا الصمت، إلا ما كان مديحا صريحا يبعث على الرثاء أكثر مما يبعث على الابتهاج. وعلى الضفة الأخرى، هنا في مصر، أنا اليوم أقرأ الواقع الوقائعي والواقع الثقافي على نحو مباشر؛ فأخرج بنتائج نقدية للبنى الذهنية وللبنى الواقعية، تكشف في تقديري عن سلسلة من الأعطاب التي تعيق كل تقدم مأمول. ومع هذا، لا أرى أن طرح مثل هذه الرؤى سيُفهم على نحو إيحابي، أي كإسهام في فهم الذات لذاتها كيما تخرج من أسر ذاتها؛ ولهذا أتردد في عرضها، إذ هي بطبيعة الوقائع العينية التي نراها ونعايشها نتائج ذات منحى سلبي، بحيث لا يمكن أن يفهم منها الجمهور الثقافي المتماهي مع الخطاب الوجداني الشعاراتي إلا أنها محض هجاء. إن ما يمور به الواقع المصري من إشكالات مجتمعية خانقة، واستحالات سياسية، وانهيارات أخلاقية، ليس إلا تمظهرا حيا لمجمل التراكم التاريخي القريب والبعيد، ولطبيعة البنى الذهنية / الأخلاقية الراسخة في أعماق العقل، كما هي راسخة في أعماق الوجدان. وكما هو واقع مصر، هو واقعنا أيضا؛ فيما لو نزعت عنا غلالة الوفرة النفطية التي تحجب ما يشابه ذلك التاريخ وتلك البنى الذهنية الراسخة في الأعماق. ونحن وهم نحتاج منا ومنهم على نحو معرفي تبادلي أن يقرأ كل من الآخر، لا على نحو القراءات الهجائية التي يتبرع بها الغيطاني وعبدالسلام العمري وسيد القمني... إلخ قائمة الابتذال، وإنما على نحو علمي، فيه كثير وكثير من الصراحة الجارحة، ولكن ليس فيه تفاهة الهجاء، ولا أحقاد شماتة الأعداء.