قيل لرجل مات أبوك قال: ملكت أمري، قيل: ماتت زوجتك قال: بدلت فراشي، قيل: مات أخوك، قال: تلك قاصمة ظهري. في هذا القول أمران وفق القائل في أحدهما وهو وفاة الأب والأخ. أما الزوجة فذوو العقل يدركون أهمية الزوجة من حيث الدور الذي تؤديه لترسيخ القيم النبيلة في المجتمع من خلال خصالها وانعكاسها على تربية أبنائها. أما استبدال الفراش بآخر فذلك ما لم يحرص عليه المجتمع البدوي وإن شاع فيه امتهان مكانة المرأة فيما يعتقد بعض الكتاب. وهذا يعود إلى عدم الألمام بحياة المجتمعات البدوية، والتي ظهرت فيها من النساء من أدارت شؤون القبيلة حينا مثل غالية البقمية ومنهن من كانت وراء استشارات رشيدة، وشراكتها مع الرجل في مجتمعها ليست وهمية. أما الفراش وهو مستنبت الأجيال ومغرس المودة فإن البدوي لا يتجاهل ذلك وإنما يقع تركيز كرام الناس على القيم الزوجية النبيلة، ومن هنا جاءت التوصية باختيار الزوجة من منشأ صالح عرف عنه جودة التربية والحرص على حماية تقاليده بالإقدام على كل فعل حسن واجتناب كل سلوك مشين. كل أفعال البشر تستجيب لطبيعة حياتهم وتقاليدها والولاء لنظمها وقيمها. لقد أثارتني أبيات للشاعر معلث الرشيدي يرثي زوجته أوردها الأستاذ عبدالرحمن السويداء في الجزء الخامس من كتابه: شعراء الجبل الشعبيون ص 2512، وفيها من القيم الاجتماعية في المجتمع البدوي ما يشرح القيم التي يؤسس البدوي عليها بيت الزوجية. وفي الأبيات سرد لما كانت عليه الزوجة من مكارم الأخلاق التي ربما عدها بعضهم اليوم أن بعضها ليس من الفضيلة غير عابئين بما للشيم من دور في تهذيب الأخلاق. فلكم قرأنا عن نساء أسيرات عند قبائل أخرى سلبت مال أهلهن واقتادتهن لتأمين غزوهم وعدم اللحاق بهم في بيداء آمنة ولم يمسوا هؤلاء النسوة الأسيرات بسوء حفاظاً على مكارم الأخلاق. ومطلع قصيدة الرشيدي مطلع شائع حمل اسم الشاعر « المقوعي » ومضمون يعبر عن الدواعي التي دفعته لابداع القصيدة وأبانت عن مكنون ذاته، وهذا منتهى ما يعبر عن الألم: 1 – قال المقوعي من كلام يجيبه هاض الغرام وبيَّح السَدّ مكنون ويبدو أن القصيدة أطول مما جاء به السويداء إلا أنه اختار زبدة القول في شعر شجي. ولعلي أذكر هذا الجزء متواليا ومن ثم التحليل لتسهل المتابعة على القارىء. في البدء لابد من الإشارة إلى ما يتمتع به شعراء الجبل من الجزالة – قوة القصيدة وعمودها – ومن السهل الممتنع الدال على الصدق وحضور الالهام ونقاء السريرة: 2 – غَزَّوا على قبره طويل النصيبة يوم الخميس العصر فوقه يصلّون 3 – البيض واجد مَيْر جنسه غريبة من شان خاطرها مع الرجل مرهون 4 – عندي وكلٍّ سلعته من نصيبه الهادي الله والعرب ما يهدُّون 5 – للضيف والجيران ما ينحكي به يَشْكر ثناها كل من له يمرّون 6 – يفرح بها الرِّجلي وراع النجيبة واللي بجانب بيتها ما يجوعون 7 – رجله قصير وهرجها تكتفي به تاخذ كلامه والزعل عنه مدفون 8 – ما هي من اللي حكي غيره تجيبه مصيونةٍ عن قول فاتن ومفتون 9 – تقصر بصوته عن كلام يعيبه من خوف جيرانه عن الصوت يوحون 10 – رثما ومع زين الوصايف عريبة الله يعين اللي على الصبر يَقْوون 11 – تقود وجه الرجل في نظف جيبه الله يَخْبره والاقارب يخبرون 12 – البيت عقبه كيف ما ينهوي به عُقْب النهار اظلم تِقُلْ غير مسكون 13 – ليا شفت شرطان الذهب حدر جيبه فريت مع دوّ الخلا تقل مجنون 14 – الموت حَقْ وله جوارٍ تجي به والصبر مفتاح الفرج كان تدرون 15 – يا ناس فَرْقَى ام الضنالا سعي به أقْشَرْ على رجالها من ضحى الكون قبل التحليل نوجه إلى أن شفهيه هذا الشعر تعرضه لخلل كتابته ، وتوحي للشاعر بصحة القافية التي كثيراً ما يعتريها التكرار، وفي هذا النص تكرار شبه جملة به في أبيات كثيرة وهم لا يجدون عيبا في ذلك ما تغيرت الكلمة السابقة ل به . وقد حدد الشاعر المناسبة ورموزها (الشواهد والصلاة والقبر ). وفي البيت الثالث ينوه عن كثرة النساء الجميلات متحسراً لتفردها في فضائل التميز عنهن ومنها الاهتمام بالزوج ومراعاة مشاعره وأداء واجبات الزوجية ومنها: 1 – اكرام الضيف. 2 – المحافظة على حقوق الجوار. 3 – ثناء كل من عرفها على خصالها. 4 – إسداء المعروف للمارين بها من ركبان وسيارة. 5 – إطعام الجوعى ممن هم في جوارها. 6 – لا تذهب بعيداً عن بيتها رعاية له والمعترين به. 7 – قليلة الكلام غير ثرثارة وغير نمامة. 8 – لا تشيع الفتنة بين الناس. 9 – لا يتجاوز صوتها محيط منزلها لئلا تزعج جيرانها بما يغضبها في بيتها. 10 – تمتاز بالعفة. هذه من القيم الاجتماعية النبيلة في المجتمع البدوي، تتحلى بها الفقيدة. أما الصفات الجسدية فقد عف عن ذكرها ليس لعدم أهميتها وإنما مهما شهد الغزل بالمرأة من إجمال وتحديد لملامح جمالها إلا أن الزوجة لا تمدح غالبا إلا باخلاقها، والعربي بعامة يتحرج من وصف جسد الزوجة إلا ما ندر. وقد أصدر الدكتور عزت خطاب كتابا عن المقارنه في الأدب واستعرض شيئا من شعر عزيز أباظه الشاعر المصري الذي ألف ديوانا في رثاء زوجته، وقد قارن الدكتور عزت بين أباظه وشاعر أوروبي آخر في رثاء الزوجات (قلق المقارنه. عزت خطاب). نعود إلى شاعرنا الذي أشار في البيت العاشر إلى جمال ثغرها وأصالتها وإلى صدرها في البيت الثالث عشر مشبها تقاسيم ما بين نهديهما وما حولهما بشرائط الذهب وهو وصف لم أقف على مثله، وشرح السويداء الشرايط بالحلي وقد يكون على صواب، وهذا وصف لا يثير الغريزة، فجمال المحيا دلالة على البشر والنقاء، وما قال عن الشرائط دلالة على استقامة القوام وتناسقه. وعن المشاهد المثيرة لحزنه في البيت الثاني عشر والبيت الخامس عشر وحشة البيت وإظلامه، وحالة الأطفال المثيرة لشجنه، وقد استثار أكثر الشعراء شجن الناس بذكر الأيتام، ولكن شاعرنا هنا أجمل في المناقب المستحبة في الزوجة. وتحضرني بمناسبة هذا الموضوع تذمر زوجات الشعراء من احجامهم في التغزل بهن، ولما كان من الغزل ذكر محاسن المرأة الشكلية من جمال المحيا وتناسق البدن وغير ذلك مما يستحب وجوده في النساء، فإنني لا أعتقد أن شاعراً يقبل تضمين شعره في زوجه شيئاً من ذلك وحسب الزوجات الغزل المباشر المتداول بين الزوج والزوجة، والاحتفاظ بمشاعر الود والاحترام بينهما. وللشاعر أبيات أخرى في باب الغزل قد تكون في هذه الزوجة الصالحة قبل القران بها، والدلالة على ذلك من صدها تطلعه إلى تقبيلها، الأولى قبلة العيد وهي مشروعة في العيد لأنها لا تحمل من معاني الحب غير الاحترام، وقد حرمته هذه (حبة العيد): يقطعك يا خل شحوح قطوعِ ما ارخص لنا مثل العرب حبة العيد والموقف الثاني في قوله: ليته سقاني والعدو مخدومِ من ذِبّل كن القحاوي ثناياه من ذبل سوّى عليها الرقومِ يموت طرّاد الهوى ما تناساه ومع أن الأبيات الغزلية هذه أكثر من ذلك إلا أنه عف عن ذكر بعض الملامح التي يستهد فها الشعراء كالنحور والصدور والخصور والارداف، وهذا من تقاليد الحب الخالص الهادف إلى حياة وعشرة. وقوله والعدو مخدوم: أي أن الخصم لا يجد فيها ما يشي به مما يعيب. والذبل: اللمى والتي عادة ما توشم بالرقوم كالخد والذقن والجبين. أما الثنايا فهي مقدمة الأسنان وقد شبهها بالأقحوان شديد البياض. هذه القيم الجمالية والاجتماعية من أين لنا بها إذا لم نجد مثل هذه النصوص الشعرية؟ لا ألوم من ليس لديه حاسة تذوق هذا الشعر، ولكن! ما دام هذا الشعر يحمل هذه المعاني فلم لا نتواصل معه ونصل أبناءنا به؟ وجهة نظر يجب أن تنظر جامعاتنا في دراستها واعتبارها أسوة بما عليه جامعات الدول المتقدمة. السويداء عزت خطاب