كتبتُ هذا المقال بعد الانتقاد الذي وجهه سماحة المفتي مؤخرا إلى الدعاة الذين يحرّضون الشباب على الجهاد بينما يمنعون أبناءهم عنه.. ولا أتردد في القول إن كثيرا من العائلات السعودية كانت تنتظر من سماحته تأكيدا من هذا النوع بعد أن فقدت فلذات أكبادها لهذا السبب بالذات.. فإحدى قريباتي المسنات مازالت تكره داعية يظهر هذه الأيام في عدة قنوات كونه تسبب بفقدها لاثنين من أبنائها في أفغانستان.. قد تستغرب لو أخبرتك باسمه لأنه هذه الأيام ركب موجة التسامح والاعتدال وأصبح يلبس الكبك والعقال اللذين كان يحرمهما في السابق ولكنه لم يعتذر يوما للعائلات التي خسرت أبناءها في السابق بسببه... ففي ذلك الوقت كانت خطبه جزءا من صناعة ضخمة عمادها الكاسيتات والكتيبات التي تحرض صغار السن على الخروج بدعوى الجهاد (وكان كتابي المفضل حينها آيات الرحمن في جهاد الأفغان للدكتور عبدالله عزام الذي حُشي بكرامات أسطورية لم نسمع بمثلها حتى مع الصحابة الكرام).. وبالطبع يتطلب الأمر تجاوزك سن الأربعين لتتذكر كل خطب العنف والتحريض التي كان يصدرها هؤلاء ضد الدولة والمجتمع ومن يعارض فكرة الجهاد في أفغانستان (باستثناء أبنائهم طبعا).. ولأن قريبتي تجاوزت هذه السن لم تشأ أن يمر حفيدها بنفس الغلطة ففعلت هذه الأيام شيئا تمنت لو فعلته مع ابنيها السابقين.. فقبل بضعة أشهر فقط ذهب حفيدها (وهو ابن أحد المتوفين في أفغانستان) الى سورية بدعوى الجهاد. وحين فشلت كل الجهود في إقناعه بالعودة، ذهبت سرا الى الشيخ الذي حرضه على الخروج وهددته برفع أمره الى الدولة إن لم يقنع «الولد» بالعودة .. ويبدو أن تهديدها أتى بنتيجة كون حفيدها عاد فعلا بدعوى أن شيخه المخلص اتصل به وأقنعه بأن أمريكا ستقصف سورية (بعد مجزرة الكيماوي) وبالتالي من الأفضل عودته حتى تهدأ الأمور علما أن اثنين من أبنائه يدرسان في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة! .. وحالات كهذه تعرفون مثلها كثير وتكررت منذ أيام أفغانستان مرورا بالبوسنة ثم الشيشان ثم العراق ثم سورية حاليا.. وفي كل مرة يموت شبابنا بسبب دعاوى جهاد باطلة لم تستأذن ولي الأمر، ولم تأخذ مصلحة البلاد في الحسبان، ولم تدرك أن ما يجري جزء من حروب عالمية باردة نخوضها عن الآخرين بالوكالة (بدليل أن لا أحد يتحدث عن تحرير القدس أو فلسطين هذه الأيام)!! .. أما بخصوص ما يجري في الداخل، فمن حقنا التساؤل لماذا لم نسمع طوال الثلاثين عاما الماضية عن داعية مات ابنه في «الجهاد»؟ كيف يطالب أحدهم معتصمي رابعة العدوية بالصمود فيما يتنقل هو حول العالم (لإلقاء محاضرات عن تطوير الذات) ولديه أبناء مبتعثون في أميركا؟ لماذا يحرضون الآخرين على الجهاد في حين يقضون هم إجازاتهم العائلية في أوروبا والخاصة في اندونيسيا والمغرب؟ .. الحقيقة هي أن للجهاد شروطا لا يعلمها كثير من الناس، ولولي الأمر نظرة أكثر عمقا وشمولية تراعي مصلحة البلاد والعباد.. أما أفغانستان والبوسنة والعراق وسورية فلم ينقصها يوما الرجال حتى نبعث إليها بمراهقين لم يحملوا يوما بندقية صيد ناهيك عن كثرة الطوائف المتناحرة باسم الدين داخل المناطق الملتهبة ذاتها!! .. لا أجد أفضل ما أختم به المقال أفضل من قول حذيفَة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدرِكني، فقلت: يا رسول الله إنَّا كنَّا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم.. قلت: وهل بعد ذلك الشر خير؟ قال: نعم، وفيه دَخَنٌ.. قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يَهدُون بغير هديِي تعرِف منهم وتُنكِر.. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم؛ دُعَاة على أبواب جهنَّم مَن أجابَهُم إليها قذفُوه فيها، قلت: يا رسول الله، صِفْهُم لنا؟ قال: هم من جِلدَتِنا ويتكلَّمون بألسنتنا.. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزِل تلك الفِرَق كلها ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة حتى يُدرِكك الموت وأنت على ذلك (البخاري). .. وكي لا نعض على الأشجار كمداً، لا تتردوا في إبلاغ وزارة الداخلية عن أي متفيهق يحرض أبناءكم على الانتحار باسم الدين..