خلاصة المقالين السابقين تؤكد على أن المعنى الحديث ل (الوطن) وما يُشتق منه أو ينتسب إليه ك (المواطن والمواطنة), غائب عن أفق المعنى المعجمي العربي, وهذا الغياب يؤكد من جهته على أنه ليس في مخزون العرب اللغوي, وبالتالي الفكري والوجداني، كما يقول الجابري, ما يفيد المعنى المعاصر لمصلحات: الوطن والمواطن والمواطنة. والسؤال المهم هنا هو: ما مدى تأثير غياب المعنى المعاصر لتلك المصطلحات على العلاقة بين "المواطن" العربي الإسلامي, وبين وطنه ومواطنيه؟ نقول كمدخل أولي لا بد منه للإجابة, إن الخطاب الإسلامي بكافة أطيافه ظل يرفض مفهوم (الوطن), وبالتالي (المواطن) و(المواطنة) ردحا من الزمن, لأنها مفاهيم تتعارض, كما كان يُرسِّخ, مع المفهوم الأممي الأثير لديه. البلاد الإسلامية, بل الأرض كلها, كما تؤكد عليه بنية ذلك الخطاب, بلاد للمسلمين جميعا. والمسلم فرد رعية, وليس مواطنا بما يؤدي إليه ذلك من الالتصاق بالأرض والبنين والحياة الدنيا. والنتيجة الحتمية لتبني المفهوم الأممي لا بد وأن تصل إلى (تجريم) المواطن والمواطنة والوطنية, وما تنبني, أو تنطلق منه من أوطان قُطْرية تتنافى والأمة الإسلامية الواحدة. لكن المتابع لمسيرة الخطاب الإسلامي لا بد وأن يقر بأن ثمة تطورا حدث في السنين الأخيرة على بنيته, ربما تحت ضغط التطورات اللاحقة باتجاه تكريس مفاهيم الوطن والمواطن والمواطنة, فأصبح, أعني الخطاب الإسلامي, يتحدث عن "الوطن" والمواطنة, ولكن بأي معنى؟ ربما يُنظر إلى تبني الخطاب الإسلامي للحديث عما كان يعده محرما, على أنه تطور لافت في رؤيته لمصطلحات (الوطن والمواطن والمواطنة), وما تقتضيه من حقوق وواجبات, والتي ظلت غائبة تماماً عن بنيته المعرفية, وهو غياب يسجل, لا على مستوى بنيته فحسب, بل حتى على مستوى تناوله للأحداث والمتغيرات من حوله. إن المفهوم البديل ل "الوطن" بمقتضياته المختلفة, والذي ظل محايثاً للخطاب الإسلامي بكل تشكلاته, هو, كما أشرنا, المفهوم "الأممي" الذي يقسم الأرض إلى فسطاطين أو دارين, أولاهما: دار الإسلام, وتضم كل بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها, بحيث لا يجوز "الخنوع" للواقع "الكُفري" الذي يقسمها إلى دول ذات حدود جغرافية مصطنعة, وخِرقة قماش (=عَلَم) يصطف الناس أمامه خاشعين! ومُسميات قُطْريَّة تمنحها وسكانها هويات دنيوية (=جنسيات) ما أنزل الله بها من سلطان! فالهوية الجامعة ل "دار" الإسلام هي الإسلام فقط, وليس ل "المسلم" من هوية إلا هويته "الإسلامية" فقط, فلا شرقي ولا غربي, ولا مصري, ولا عراقي, ولا شامي, ولا يمني, كما لا سعودي ولا كويتي! ومن هنا فليس غريباً أن كان الخوارج الجدد, ممن عاثوا تفجيراً وتدميراً في بلادنا, وأرادوا أخذنا وذرارينا سبايا لهم ولمن يُسيِّرهم من الخارج, وكذلك المتعاطفون معهم من قعدة الخوارج بيننا, أقول ليس غريباً أن لا يشيروا لبلادنا باسمها الرسمي: المملكة العربية السعودية, وأن يشيروا لها, بدلاً من ذلك, باسم يتفق وأيديولوجيتهم الجهادية: بلاد الحرمين! لا تعظيماً للحرمين الشريفين بذاتهما, بل هروباً من الاسم الوطني الذي لا وجود له في البنية المعرفية لخطابهم, ذلك الاسم الذي يعدونه "صنماً" من دون الله, والمؤمنون بوجوده قد خنعوا لإرادة "المشركين" إن لم يكون قد أشركوا بالفعل! وثانيتهما ما يطلقون عليها: دار الحرب, وهي ما سوى بلاد المسلمين, والتي يجب, وفقاً للإيديولوجيا الخوارجية, أن تظل مستباحة للمسلمين, تطبيقاً لفريضة الجهاد (= جهاد الطلب وهو ابتغاء "العدو" في عقر داره). ومن ثم فمن الطبيعي أن لا وجود ل "الوطن والوطنية" في عناصر بنية خطاب يرى أنه يتمثل مقومات الإسلام, وفق تفسير تاريخي معين, سلوكاً ورؤية ومنهجا! وهذا المفهوم الذي لا وجود ل "الوطن والوطنية" في قاموسه اتساقاً مع بنيته المعرفية, أدى إلى حصر الانتماء, ومن ثم, الأُخُوَّة والنصرة, في الأخ المسلم (وفق تفسير خاص للأخوة الإسلامية), وأصبح شعار: اُنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً (وفق تجاهل صريح لمقصود الحديث النبوي) هو الشعارَ المعتمد في موالاة "المسلمين" حتى وإن كان آحادهم طاغية جباراً ظالماً سفاكاً للدماء من طراز الحجاج بن يوسف أو صدام حسين أو الأسد! فيما تولد من ذلك الشعار شعار نقيض مضمونه: معاداة غير "المسلمين" بالمطلق, حتى من كان منهم مسالماً محاربا للطغيان, ومحررا لشعبه من الاستبداد ك "المهاتما غاندي, ونيلسون مانديلا", أو نافعا للبشرية باختراع عظيم نافع للبشرية ك (وليم مورتن) مخترع التخدير, الذي كان المريض تجرى له العمليات قبل اختراعه بلا تخدير, فكان يقاسي الأهوال والعذابات! وهذا الشعار المزدوج أصبح هو المتحكم, وفقاً لبنية ذلك الخطاب, في تكييف علاقات المسلمين بمن حولهم, مسلمين وغير مسلمين. هذا التحليل لرؤية الخطاب الإسلامي لمفاهيم: الوطن والمواطن والمواطنة, يجعلنا نؤكد, باطمئنان أقرب إلى اليقين, أن "التطور" الذي طرأ على الخطاب الإسلامي بشأن (الوطن والمواطن والوطنية) ليس في حقيقته إلا استدعاءً للمعنى العربي المعجمي القديم ليس إلا. والنتيجة الأخرى الأكثر إيلاماً, أن غياب مصطلح (الوطن) بمعناه الطبيعي (الغريزي) عن بنية الخطاب الإسلامي, بكافة تشكلاته, طوال عهوده التي سبقت "تطوره!" الأخير يشكل, بلا شك, علامة واضحة على نكوصه الحضاري حتى عن تراثه العربي الإسلامي, هذه حقيقة لا مجال للتشكيك فيها, بعد أن ظل الخطاب الإسلامي يرفض الاعتراف ب "الوطن والوطنية" حتى في معناهما الغريزي اللذين ظلا محايثين للغة العربية والتراث الإسلامي! وثمة سؤال آخر على هامش هذا الحديث وهو: إذا كانت "الوطنية" بمعناها المترجم عن اللفظ الأجنبي" patriotisme" لا تنفي الأثر الذي يترتب على الانتماء ل "الوطن" بالمعنى الغريزي, والذي يحيل إلى الانتماء والحب الغريزيين, فما المشكلة إذن من توطين "الوطنية" بهذا المعنى (= الحب الغريزي)؟ والجواب: إن المشكلة هنا تنبع مما يمكن أن أسميه "تفتيت ومن ثم تمييع الوطنية", ذلك أنه إذا كان معنى الوطن يحيل إلى البلد والمدينة والمنزل والموطِن والحارة, مع الاستمرار صعوداً إلى الطائفة والقبيلة والمذهب, فإن الوطنية, بمعنى الحب والدفاع عن (الأوطان) الغريزية, سوف لن تؤدي إلى وضع يعمد فيه "المواطن" إلى توزيع محبته واستعداده للتضحية بين تلك "الأوطان" بشكل متساو, بل إنها (= الوطنية الطبيعية الغريزية ) نسبة لطبيعة تَأَسُسِها على تراتبية الانتماء صعودا من أدنى الانتماءات إلى أعلاها, سوف تصل إلى وضع يلتف فيه "المواطنون" حول "الوطن" الذي يوالونه أكثر من غيره, بحيث يكون الولاء للقبيلة أولاً ثم المذهب الديني تالياً أو العكس, نزولاً إلى المدينة ثم المنطقة, وهكذا نزولاً إلى الحد الذي لا يبقى معه للوطن, بمعناه الحديث, إلا الفتات, هذا إذا بقي له شيء! وهذا هو الملحوظ في كافة المشاهد العربية والإسلامية التي لم تتوطن فيها معاني الوطن والوطنية بالمعنى السياسي الحديث, فالانتماء الأقوى فيها للقبيلة بمعناها الأشمل, ولا سيما القبيلة الروحية ممثلة بالمذهب العقدي بشكل خاص, فيما يتضاءل الانتماء ل"الوطن", أو يكاد يتلاشى إلى الحد الذي لا يتحاشى فيه "المواطن الغريزي" تدمير وطنه الأصل بكل ما أوتي من قوة وحيلة, خدمة ل "وطنه" الطبيعي, سواءً أكان المذهب أو الدين, اللذين يشكلان أبرز "الأوطان" الغريزية التي تراق على مذابحها دماء الأوطان الحقيقية. وهذه حقيقة معاشة في معظم الأوطان العربية والإسلامية, حيث نجد الانتماء والولاء الطائفي مقدمين على الولاء ل "الوطن الكبير". وحيث نجد, تفريعاً على ذلك الولاء الطائفي, أن الأكثرية المذهبية تنظر إلى الأقليات المذهبية على أنها زُمَر من الكفار المارقين الذين يجب استئصالهم حماية لحمى "الفرقة الناجية!", فيما ترى الأقليات المذهبية, أن "الوطن الكبير" دار حرب يجب جهاده لإدخاله في حظيرة "الإسلام!". إن تعميق مفهوم "المُواطن والمُواطنة" الحقيقيين, يعتمد على تشجيع المشاركة الجماعية ل "المواطنين" التي تتشكل في مظاهر التطورات المدنية المعاصرة, كالتوسع في الترخيص لمؤسسات المجتمع المدني, التي تغري "المواطن" بالاقتراب من مرافئ "المُواطنة" بعيداً عن التحزبات والانكفاءات حول "مَواطِن" الولاءات الضيقة: القبلية منها والمذهبية, اللذان يشكلان أبرز مَعقلين يشدان "المواطن" العربي والإسلامي بعيداً عن الولاء للوطن بصفته الاعتبارية الحديثة. وكذلك تشجيع "المواطن" العربي والإسلامي على الانخراط في طريق الولاء ل "الوطن" الاعتباري وحده, بتفكيك وعيه القديم/المعاصر, المتمحور حول القبيلة والطائفة والمذهب والعرق, على طريق تدشين وعي جديد متجه نحو "الوطن" الممثل ب "الدولة/الأمة" وليس مجرد البلد أو الأرض. وذلك لا يتأتى إلا بتطوير برامج التعليم أولا, ثم كافة برامج التوجيه التربوي الشامل ثانيا, لتكون مهيأة للتركيز على إعلاء صوت "الوطن" بشخصيته الاعتبارية, وتخفيض, وصولاً إلى تذويب, ثم إماتة, الصدع والردح والفحيح حول مفردات القبيلة, بمفهومها الشامل. إن فعلنا ذلك فسنجني ثماره التي ربما أبطأت نوعاً ما, لكنها ستكون القاضية على روح "المواطنة" القبلية منها كما المذهبية والعرقية, والتي تتجه, أول ما تتجه, نحو الحفاظ على المكتسبات الضيقة ل "للمذهب أو القبيلة أو العرق" على حساب حقوق الوطن الكبير. ولعل فريضة العين التي تسبق تشجيع روح المبادرات "المدنية" تكمن في (التجريم) الرسمي والشعبي للتكفير والتنابز الديني والمذهبي بكافة صوره. وهذا التجريم المطلوب والمُلِّح في الوقت نفسه, لا بد وأن يتعقب التكفير والازدراء (الديني والمذهبي) في كافة مشاهدها, لتبقى (المواطنة) ل "الوطن" الاعتباري وحده. وتلك لَعمري أهم سبل دحر شياطين الإرهاب, ممن يقتاتون على قابلية الفسيفساء الدينية والمذهبية في البلاد العربية والإسلامية للعب على تناقضاتها القابلة للانفجار في أية لحظة.