منذ القدم، وتحديداً في فترات النهضة التي تمر بها الأمم والمجتمعات الحية، شكلت صناعة الرمز والنموذج والايقونة مطلباً ملحاً وذكياً لتلك الأمم والمجتمعات التي وجدت في أسطرة وترميز الكثير من شخصياتها وأحداثها ومواقفها التاريخية، خروجاً عن النسق المألوف، بل وتفرداً وتميزاً يضعها في الصدارة والطليعة. ومن المؤكد طبعاً، بأن صناعة النجم والاسطورة، تحتاج للكثير من المعطيات والمصادر والآليات، ولكن الإعلام بمختلف أشكاله ووسائله ووسائطه وتقنياته هو الذراع القوي لنجاح تلك الصناعة التي تجد لها أصداء وتداعيات في المجتمعات المتحضرة التي استثمرت وسوقت وروجت لهذه الظاهرة/ الصناعة الملهمة. لقد برعت تلك المجتمعات المتطورة، غرباً وشرقاً في استثمار رموزها ونماذجها الانسانية، وكذلك احداثها ومواقفها التاريخية، بشكل اقتصادي وثقافي واجتماعي، وسلّطت عليها ماكناتها الاعلامية الضخمة لتصنع منها اساطير وايقونات تُلاحقها وسائل الاعلام وتُبرزها بشكل مُبهر ومُدهش ومُلهم، لتعكس الصورة النموذجية التي تُريد أن يُشاهدها العالم من خلال تلك الطبقة البرّاقة الرموز والايقونات التي تعشقها الكاميرات والاضواء، فضلاً عن الجماهير العريضة. تُمثل صناعة الرمز والاسطورة في أمريكا وأوروبا، واقعاً مجتمعياً ونمطاً سلوكياً، اعتادت عليه الذائقة الانسانية الغربية، بل اعتبرتها أي صناعة النجم من أبرز مصادر الإلهام والتميز التي أهلتها للسيطرة على العالم. في السياسة والثقافة والادب والفن والرياضة، وفي كل مجالات وتفاصيل الحياة، صنعت تلك المجتمعات المتطورة رموزها وايقوناتها، لانها ادركت اهمية وخطورة الرمز في التأثير على صناعة مستقبلها، ولانها أيضاً ايقنت بأن النماذج الانسانية والاحداث التاريخية الملهمة تُشكل أحد أهم معالم ثقافتها وحضارتها. هناك الكثير من الدول في كل انحاء العالم، لا تملك نصيباً من الثروات والامكانات المادية، ولكنها تحظى بشهرة واسعة ومكانة عالية نتيجة الاسماء والرموز والايقونات التي تزدهر بها خزانتها البشرية. نعم، الرمز في هذه الفترة من عمر العالم، بل وفي كل الفترات، قد يكون أحد أهم المصادر التي تفخر بها الأمم والمجتمعات، تماماً كما كان يحدث في القبيلة العربية التي يبرز فيها شاعر فحل أو خطيب مفوه. تلك هي صناعة الرموز والنماذج والامثلة العليا في الغرب، وبعض الشرق، ولكن ماذا عنا نحن العرب؟ سؤال كبير جداً، بحجم الفارق الكبير الذي يزداد كل يوم بيننا وبين الغرب. نعم، نحن نملك الكثير من الرموز والاحداث والمواقف التاريخية التي لا مثيل لها على الإطلاق في الأمم والحضارات الأخرى، ولكن المشكلة تكمن في كيفية استثمار تلك الرموز والأحداث بالشكل المطلوب، وتلك صناعة غربية بامتياز، ونحن لا نتقنها، بل لم نؤمن بها حتى الآن. يحفل السجل العربي، القديم والحديث، بكم هائل من الملهمين والمميزين والنابغين في مختلف التخصصات والفنون، كما أن الحضارة العربية اسهمت بشكل كبير جداً في تشكيل وتنوير وتطوير العالم بأسره، خاصة في الفترات المظلمة التي مرت بها الحضارة الغربية والتي امتدت لقرون طويلة، تلك العصور التي عُرفت بعصور الظلام والجهل والتخلف والوحشية. من ارض العرب، خرجت الرسالات السماوية التي انارت العالم، كل العالم. ومن ارض العرب، ظهرت الكثير من الشخصيات والايقونات الملهمة. وعلى ارض العرب، نُسجت الكثير من الحكايات والأحداث والمواقف التي غيرت خريطة العالم أكثر من مرة. نعم، هذه الأرض العربية الملهمة، كانت ومازالت مصدراً ومنبعاً للطاقات البشرية والثروات المادية والامكانات الاستثنائية، ولكن وآه من لكن كل ذلك لا يكفي، لأن الأمر يتعلق بصناعة لها أدواتها وآلياتها وقوانينها، ونحن أي العرب لا نُتقن تلك الصناعة، لأنها لم تستقر بعد في فكر ومزاج وذائقة العقل العربي الذي يعشق العفوية ويستسلم للنمطية. نعم، هناك محاولات خجولة وبسيطة جداً في طريق تمظهر هذه الصناعة الرائعة التي اثبتت جدواها في الكثير من المحافل والمواقف، ولكنها، أي تلك المحاولات العربية، لا ترقى لتصبح صناعة قائمة بذاتها. أيضاً، المحاولات البائسة التي تقوم بها بعض الدوائر والمؤسسات من اجل ترميز وأسطرة بعض الشخصيات التي لا تمتلك الحد الأدنى من ظاهرة الرمز والايقونة، ولكنها بقصد تمرير بعض الاجندات والافكار والثقافات والتوجهات التي تُريد أن تفرضها على المجتمعات العربية، مما يزيد من منسوب الاحتقانات والخلافات والصراعات. كالعادة، تأخرت العقلية العربية كثيراً عن اللحاق بركب التطور والتقدم والتمدن الغربي، ولكنها بكل أسف وحزن، ورغم وصولها متأخرة، لا تعرف أيضاً كيف تستفيد من كل تلك الانجازات الغربية، وهذا ما حدث تماماً في صناعة الرمز التي تُحاول أن تجد لها سوقاً عربياً يضمن لها نجاحها وتفوقها. بكل أسف، تتصدر المشهد العربي الآن، رموز وأمثلة عليا دُفع بها لتلميع الكثير من الافكار والثقافات والتيارات، تسببت في صناعة أجواء من التشنج والعصبية والتعبئة الطائفية. بكل أسف، تلك هي الصناعة البائسة التي يمتهنها البعض، ويبرع بها حد الاتقان.