كانت تبدو لي وكأنها لوجه، خارجة عن إطارها، صورة عتيقة، قادمة من البعيد، من زوايا لم أكن أعرفها على الأقل في تلك السن المبكرة. وكانت بالنسبة لمن (يتربعون) كل أسبوع للاستماع إليها، امرأة قادرة على الجذب، والإنصات، وعدم المقاطعة. كانت فاكهة ليلة الجمعة، ولا فاكهة سواها في المنازل المتلاصقة، لا ضمانة في حجز مكانه لمن حضر متأخراً، بالنسبة لي كان الأمر سهلاً وبسيطاً، كنت اذهب مع والدتي إلى بيت جدتي حيث الاجتماع، ولا مكان لي سوى خلف أمي، أو خالتي لأن «القعادة» أو السرير الذي كان تجلس عليه السيدات يتسع لأكثر من عشر نساء على الجانبين. اسمها في حد ذاته كان كارثياً، وهو كان معتاداً رغم غرابته، وتقاطعه مع ايديولوجيا ذلك العصر، ولكن ورغم أنه عمق اليسار، وقمة ومحور اللينينية، والماركسية إلا أنها لم تعرف ذلك، ولم يعرف من يستمع إليها، خاصة أن اسمها ينطق ويسجل اعتيادياً. سيدة يمنية لا أعرف إن كانت على قيد الحياة أم توفيت رحمها الله، ولدتُ وهي في حارتنا، «شوعية» الاسم الحقيقي وليس الحركي، هي لا تعرف متى جاءت إلى جيزان كل ما تعرفه أنها فتحت عينيها في جيزان، ولم يكن هناك فرق أو تفرقة بين المواطن والمقيم، خاصة إذا توقفنا عند تقاطع عدم وجود أنماط أخرى أو جنسيات أخرى سوى اليمنيين، وهم أقرب في الطباع إلى سكان المنطقة. خالة شوعية، سيدة متوسطة القامة، بيضاء اللون، نحيفة جداً تلتف بعباءتها وترفعها كعادة نساء تلك الأيام إلى منتصف الثوب الذي ترتديه وتلفها عليها، مع غطاء شفاف وخفيف، على الوجه، زوجها صياد سمك، وبائع له، لا أراها إلا مساء كل خميس، ونساء الحي يلتفون حولها، وأكاد أنا أكون الطفلة الوحيدة التي تظل تسترق السمع. خالة شوعية عرفت «بالحكاءة» أو الحكواتية وهي مهنة تحتاج إلى موهبة خاصة، وجرأة رهيبة، وقدرة على ضبط الحاضرات، وعدم خروجهن من مسار المتابعة. خالة شوعية مساء الخميس وبعد المغرب تجلس في صدر المجلس، مفرطة في الهدوء أقدامها معلقة بين الأرض ومكان جلستها، عباءتها لا تخلعها، وغطاء شعرها يغطي نصف الشعر المختلط أبيض وأسود، ويتوسطه مفرق في المنتصف وتسريح الشعر على الجانبين ولفة في جديلتين خلف الرأس مع تغطيته بالإيشارب. (صلوا على سيد الخلق محمد بن عبدالله) عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. كان يا ما كان (رجاّل) بمعنى رجل واحد وتبدأ الحكاية وكأنها من حكايات ألف ليلة وليلة قد تستمر نصف ساعة، ولا يقاطعها أحد، وقد تطول أكثر، والجميع ينصت بهدوء، حتى تنتهي وغالبية الحكايات تنتهي بزواج البطل من البطلة بعد العذاب وموت الشرير، أو الشريرة. الغريب أنه بعد انتهاء الحكاية لا تبقى حكاية كما كانت بل تفتح ساحة النقد البريء والإفراط في التفاصيل وكأنك في جلسة أو أمسية أدبية، تحليل وتخيل صور هلامية، وفرح بأن الله سبحانه وتعالى نصر البطل، أو البطلة. لا أعرف لماذا أتذكر هذه الصفحات القديمة وأنا أدون صفحات جديدة هل لأنني اكتشف الآن من ساهم في صناعة هذا الطريق الذي أعبر عليه؟ أتذكر حكاياتها البريئة، والتي في احدى المرات احتجت سيدة على وجودي بحكم صغر سني في السابعة أو الثامنة، لكن خالة شوعية قالت لا (إحنا ما نتكلم ولا نحكي في العيب وما نستحي منه) بمعنى أنها كانت حكايات نظيفة كالسينما النظيفة. أتذكر وكأنني اتخلص من صور مغلّفة بالإنسانية والفرح، ولا يمكن استبدالها بما يبددها. يظل بعض البسطاء هم الأبطال الذين شكلّوا مسارنا، ولا شيء أكثر حقيقة في هذه الأرض مما كنا نتخيله عبثاً وحكايات من بساطة التفاصيل، وذلك الزمن البريء الطفولي الغارق في المودات، والحب، والإنسانية، وتلك الأشياء التي وإن لم أكن أعي تأثيرها إلا أنها شكلّت المتغير الأساسي في داخلي، ونقطة الاعتزاز..!