أدخلتني رسالة البريد السعودي التي تحمل شعار "وكّلنا وتوكل" نفق الذكريات حول الاضحية، ونقلتنى الى التفكير في مستقبل هذه الشعيرة.. فما من مسلم الا وله من الذكرى مع هذه الشعيرة.. ولكن رسالة البريد السعودي كانت مثيرة الى حد الاستغراب في الصياغة التي تقول"سعيا منا لخدمتكم.. نقدم في البريد السعودي خدمة اداء نسك الاضحية نيابة عنكم. لمعلومات اكثر يمكنكم التواصل معنا على..". ورغبة في معرفة المزيد تواصلت فعرفت ان الموضوع هو نتاج اتفاق مع البنك الاسلامي للتنمية بحيث يكون دور البريد تحصيلا ماليا فقط والبنك يقوم بالباقي ضمن مشروع الهدي والفدي او الصدقات للحجاج.. أعرف حاجة الحاج لمن يقوى نيابة عنه بالفدي او الهدي ولكن الاضحية لها نتاج ثقافي مختلف في جميع انحاء العالم الاسلامي، ومن التجربة مع بعض الصغار ترسخ في الذهن صور التقرب من الله وقيم العطاء بالتساوي بين الذات والاقرباء والمحتاجين. ولدى بعض الصغار فإن منظر الدم قد يقلب المعادلة رأسا على عقب في ردود فعل مختلفة من كوابيس الدم الى التحول الى نباتي، ولكن في الغالب تترسخ القيم بالمشاركة في الاضحية، ولكن هناك ثقافة جانبية سلبية تجاهلنا فيها بعض الابعاد النبيلة لهذا النسك الذي نقتدي فيه بالمصطفى عليه افضل الصلاة والسلام بقول الحق في سورة الكوثر"فصل لربك وانحر".. ومن هذه الجوانب السلبية تحوّل الكثير من العمالة الوافدة الى جزارين. وتحوُّل الشوارع الى مرتع نفايات بالرغم من ان هناك ثقافة كانت في المدن تتمثل في عمليات تجميع الجلود، فهل يمثل توجه البريد السعودي نموذجا من النماذج التي بدأت تنتشر من اجل "نوكل ونتكل" بمعنى نتخلص من القيام بهذا النسك او معايشة تفاصيله؟ الشواهد تشير الى شيء من هذا، فالاسعار في ارتفاع والمساكن غير مهيأة والبديل ارخص وانظف، ولكن ليس للجميع فللذكريات طابع آخر. ربما في الغربة تكثر التجارب الغريبة. ولعل الطالب المبتعث اكثر من يعرف تلك القصص والتجارب. اذكر عندما كنت طالبا في كاليفورنيا الاميركية كنا نتجه الى بعض مزارع وادي سان واكين، وترسخت علاقة الكثير منا مع مزارع من متقاعدي الكاوبوي. فكان يشاهد البعض منا وهو ينفخ جلد الاضحية حتى ينقطع نفسه فاجتهد اجتهادا فنيا وليس فقهيا فأحضر للشباب "ماطور توليد الهواء"مثل الموجود لدى محلات "البنشر" ونفخ الاطارات بالهواء. فبدأ الجميع ينفخ في الاضحية او الذبائح في الايام الاخرى. احد الزملاء كان يردد لا اريد ان آكل من "لحم الاموات". فهو يعرف ان الاضحية في ثقافة أسرته كانت عن الاموات ممن يوصي بأضحية له ولوالديه. والبعض يتذكر تلك القصص التي تروى حول اقتحام الشرطة لمنزل من منازل المبتعثين وقد احضر خروفاً لذبحه في دورة مياه وسط البانيو. والبعض الآخر لا يعرف كيف يوزع ثلث الجيران كما يقول من بين الاميركيين، وبالتالي يعمل التفافة بحفل شواء بدلا من حمل اكياس اللحم لمنازلهم في لحظة استغراب ودهشة. أعتقد ان قصص الأضاحي وفق نهج البريد السعودي ستختفي الا من قصاصة ورق تسمى قسيمة شراء اضحية. وهذه القسيمة لا تحمل الا جانبا من جوانب النسك وهو الأداء. ولكن بقية المستحب من أكل وتوزيع وقسمة بالعدل وصلة رحم وتعزيز جوار ستختفي تدريجيا. فسنصبح نمارس الشعائر والانساك بالتوكيل وربما التواكل. ومنظر الاتكال على العمالة الوافدة في الذبح جعلهم ينتشرون في الشوارع وهم يحملون السواطير. يقال إن احد المقيمين من غير المسلمين توقف عند نقطة تجمع للجزارين المتحولين من مهن اخرى فتدافعوا نحو سيارته لعرض خدماتهم، ففزع الرجل واتجه لسيارة شرطة كانت تمر بالقرب منهم، ولم تفعل شيئا. فقال هذا الرجل للشرطي لماذا لم تقبض على هذه العصابة المدججة بالسلاح الابيض؟ فضحك الشرطي وشرح له الموقف. وطرائف الاضاحي كثيرة ومنها تلك التي يرويها الشيخ عايض القرني عن المسلم السويدي عبر اليوتيوب. ولكن هذه المشاعر والقيم وحتى المواقف ستندثر تدريجيا عندما تصبح الاضحية قسيمة في العالم الافتراضي..