يفتتح الدكتور: يوسف زيدان الفصلَ الأول من كتابه (اللاهوت العربي وأصول العنف الديني) بقوله:"حين يتلقى اليهودي الصبي، والمسيحي من بعدُ، قَصصَ التوراة للمرة الأولى في حياته يتلقاها مبسطة ومشفوعة بشروح وتعليقات خليقةٍ بأن تجعل هذه القَصَصَ مقبولاً في أذهان أهل الابتداء، على اعتبار أن بواطن المبتدئين كالشمع تقبل كل نقش من دون أي نقاش. ومع تكرار الأمر يوما بعد يوم، جيلا بعد جيل، يصير القصص التوراتي معتادا ومنظورا إليه على اعتبار أنه عقيدة ودين، بل هو العقيدة ذاتها والدين". هذا القصص التوراتي الذي يتعالى على سنن الطبيعة، ويستهزئ بالذات الإلهية، بل ويتعالى على فهم طفل بدأ عقله يتفتح للتو، لا يشك اليهودي المتدين بأنه وحي من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو مستعد لإزهاق نفس من تسول له نفسه التشكيك فيه! هذا النص من زيدان يتغيأ إثارة الانتباه إلى تأثير غياب القراءة النقدية التي تروم إعمال ملكة العقل، سواء أكان المكوِّن أم المكوَّن، في فرز التاريخي، عن (اللاتاريخي)، مما هو محسوب على المجاز والأسطورة والمخيال الشعبي. ذلك أن العقل التسليمي الانقيادي، إذ هو حصيلة التربية غير النقدية، فإنه يخلط ولا بد، بين المجاز والحقيقة، وبين تجليات الخيال الشعبي والتاريخي، الأمر الذي يخفي معه حتى القبْليات العقلية التي قد تقاوم مثل هذه التجليات (اللاعقلانية). من بين القصص التوراتي مثلا، أن الرب -تعالى عما يزعمون- أمر اليهود يوم كانوا بمصر، أن يذبحوا خرافاً ويضعوا من دمائها على مقدمة بيوتهم، لكي يميزها، أي الرب، فلا يضربها حين يضرب المصريين ليلة العبور. وهذه المناسبة (= إهلاك الرب للمصريين إكراما للشعب المختار) أصبحت عيداً عند اليهود، يشكرون فيه الرب أن أهلك المصريين إرضاء لهم، وتسهيلا لمغادرتهم أرض مصر! يعلق زيدان على هذا الأمر "الإلهي" لليهود بذبح الخراف، فيقول: "وهكذا يحتاج الرب التوراتي، المفترض فيه أنه القادر العليم، علامة بصرية كي يميز بيوت أحبائه من اليهود حتى لا يضربهم سهواً بتلك النيران الصديقة التي يهلك بها أهل مصر. وهو الهلاك الذي احتفت اليهودية بوقوعه، وجعلته عيدا للرب أبد الدهر، وهو عيد الفصح والعبور". ومن القصص التوراتي التي يعجب الإنسان السوي أن ثمة من يؤمن بها على أنها وحي من عند الله، ما جاء في سفر التكوين، مما ينقله زيدان في نفس الكتاب، أن الله -تعالى عما يقولون-، حزن على خلقه للإنسان لما كثرت شروره، فقرر أن يبيد الخلق كلهم، فعبر عن حزنه بقوله: "أمحو عن وجه الأرض الإنسانَ الذي خلقتُه، الإنسانَ مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأني حزنت أني عملتهم". والغريب والعجيب أن لا يسأل اليهودي المتدين نفسه سؤالا بسيطا بديهيا هو: ما ذنب البهائم والطيور ودبابات الأرض أن تطالها عقوبة الرب حين يغضب على الإنسان الذي ملأ الأرض شرورا وبغيا؟ من السهل على من هم من خارج الديانة اليهودية أن يقولوا إن هذه نصوص محرفة، لكن هذا الزعم لم ولن يؤثر في الوجدان اليهودي الذي تكون عبر الصدح بتلك النصوص، حتى أصبحت عصية على النقد، لا من جهة (لا تاريختها) فحسب، بل من جهة أنها استهزاء بالله سبحانه وتعالى. وهذا الأمر (=استعصاء القصص الخرافي التوراتي على النقد عند اليهود)، يثير مسألة غاية في الأهمية، وهي أن المهم بالنسبة للثقافات والأديان والمعتقدات، ليس في ما تحمله نصوصها الأولى من مضامين تنزيهية وعقلانية وأخلاقية وإنسانية، بل في ما بقي في اللاشعور الجمعي من تفاسير ونصوص ثانوية شكلت هوية الفرد المتدين، فأصبح يوالي ويعادي، ويتخذ موقفا اجتماعيا وسياسيا وعقديا بناء عليها، لا بناء على النصوص الأولى. وهذا "تطور" حدث في معظم، إن لم يكن كل، الديانات، حيث تتضاءل أهمية النص المؤسس جيلا بعد جيلا، حتى تكون النصوص الثانوية المنقوعة بمصالح السياسة وتوجهات المجتمع هي الحاكمة بأمرها. هذا القصص التوراتي الذي يتعالى على سنن الطبيعة، ويستهزئ بالذات الإلهية، بل ويتعالى على فهم طفل بدأ عقله يتفتح للتو، لا يشك اليهودي المتدين بأنه وحي من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو مستعد لإزهاق نفس من تسول له نفسه التشكيك فيه! جاء الوحي المحمدي مطرحا القصص التوراتي، ومدشنا لأول مرة في التاريخ الإنساني، منطقية وعقلانية لا مثيل لها في زمنها، منطقية تؤكد على ثبات سنن الطبيعة بنصوص مؤسسة من قبيل قوله تعالى: "سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا"، وقوله (ص) "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"، لكن الإسرائيليات التي تسربت إلى مدونات التفسير أعادت العقل الإسلامي إلى المربع الأول الذي حاول القرآن والسنة المتواترة، انتشاله منه، فغاص في متاهات الخرافات التوراتية، فأصبح لا يقبل أن يأخذ الآية من كتاب الله بمنطوقها ومفهومها الواضحين، بل يتوسل الإسرائيليات لكي تفسرها له بما تحمله من إرث خرافي. المشكلة هنا أننا نعتقد، ونحن نؤمن بكثير من الإسرائيليات التي تمتلئ بها كتب الوعظ والتفاسير، أننا متدينون محافظون على ديننا، ذلك أن "التدين" الشعبي، ليس شرطاً فيه أن يكون موافقاً لما جاء به النص المؤسس، بل إنه يتكون عادة وفق ما بقي وحُفظ في (اللاشعور) من النصوص الثانوية كالشروح والتفاسير، وتفاسير التفاسير وأقوال الفقهاء وحواشيهم. وفي هذا المجال، ينقل عالم الاجتماع العراقي: علي الوردي في كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة) عن الجاحظ ما معناه أن معتقدات الإنسان ومظاهر تدينه، نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يعرض عليه من آراء. لقد استمرأنا رواية القصص الخارق لقوانين الطبيعة حتى أصبحنا نضلل، إن لم نكفر من لا يصدق بها، رغم مجافاتها لمبادئ العقل، ولتجليات الوحي المحمدي. أذكر أننا في صغرنا كنا نعايش وعاظاً يروون لنا قصصا لا تقل خرافية و(لا منطقية) عن القصص التوراتي. من بين تلك القصص، ما كانوا يروونه مما يحصل بعد الموت لمن يمارسون عادة "التتن"، أي تدخين السجاير. فلقد حدّثنا أحد الوعاظ حينها أن أحد الشباب الذين كانوا "يتتنون" توفي، فغسله أهله وكفنوه، وجاؤوا به إلى المسجد للصلاة عليه، فما كادوا يضعونه أمام الإمام مستقبلاً القبلة حتى انحرف عنها، وعبثاً حاول المصلون توجيهه إلى القبلة برفد رأسه ببعض حوامل المصاحف، إلا أنه أصر على الانحراف. ولما تساءل المصلون عن السر، فاجأهم أخوه، أو والده شك الراوي، بأنه كان يتعاطى "التتن" والعياذ بالله!. أما واعظ آخر فلقد كان من أغرب ما حدثنا به أن رجلا نجديا سقطت منه محفظته في قبر ابنته عندما كان يدفنها، فاضطر إلى فتح قبرها، لكنه لم يجد ابنته، بل وجد رجلاً كبيراً السن، ذا شعر أبيض وبشرة بيضاء فاقعة، على هيئة أوروبية. ردم الرجل القبر، وكر راجعاً وجلاً إلى بيته ليسأل زوجته إن كانت تعلم من ابنتها سلوكاً غير سوي يوم أن كانت في الدنيا، فذكرت له أنها كانت تستمع إلى آلات اللهو، وتتهاون في أداء الصلوات في أوقاتها، فكتم الأمر إلى حين. فيما بعدُ جاءت الأخبار من إحدى الدول الأوروبية تفيد بأن شابا فقد شيئاً ثميناً له في قبر والده عندما كانوا يدفنه، فاضطر إلى فتح القبر للبحث عما فقده، لكنه لم يجد والده، بل وجد فتاة سمراء ذات ملامح عربية، فأعاد القبر إلى ما كان عليه وكتم الأمر. ما أن تناهى الخبر إلى الرجل (النجدي) الذي فقد محفظته في قبر ابنته، حتى صمم على معرفة سر القصة، وبعد طول تنقيب وبحث، اتضح له أن ابنته نُقلت من قبرها إلى قبر ذلك الرجل الأوروبي الذي أسلم في آخر حياته، والذي بدوره نُقل إلى قبر ابنتهم!. في هذه القصص ومثيلاتها، لم يكد الوعاظ حينها ينتهون من سرد أحداث قصصهم، حتى تتعالى أصوات الحضور بالبكاء والنحيب والحوقلة والاستغفار!. هناك الكثير من القصص التي وردت في تراثنا الفقهي والعقدي مما دشن في سياقات ماضوية، وبعضه دشن لمصالح سياسية بحتة، ومع ذلك، فنحن نمررها كما جاءت، لا نستطيع أن نفككها بمعول العقل، لأننا، بالإضافة إلى هيبة الأولين التي تحجب عقولنا بحجاب سمكي، فنحن لا نملك، جراء البرمجة الحدية الآحادية، حاسة نقدية تمكننا من اتخاذ مسافة نقدية تجاهها، على الأقل من منظور سنن الطبيعة التي نقرأ في التنزيل العزيز أنها لا تستحيل ولا تتغير ولا تتبدل، ومع ذلك نضرب صفحا عنه، ونجوز حدوثها بأدوات "العقل" نفسه!