عرفنا كثيراً من المواقف التي تجري بين شعراء العربية لاستثارة قرائحهم للإبداع، أو لاختبار مدى قدراتهم في الصنعة الشعرية، وإن كانت هذه الصنعة غير مستحبة في الإبداع لما يصاحبها من عسف لبعض المفردات لتجميل الصنعة وتحميل النص عبء ذلك. ولئن اعتبر بعض ذلك من أنواع التعجيز إلا أن تركيب العبارة يثير في الأديب المتلقي حاسة عدم التقبل لعسر تذوق النص والشعور بقسره، وقد يثير في بعضهم حاسة التحدي. ومن ذلك مقامات الحريري التي أحدثت جدلا حين صدورها واختلف النقاد حول إبداعها، منهم من اعتبرها إعجازا، وآخرون عدوها صنعة. والاعجاز من الابداع أما الصنعة فغلبة الشكل على الجمال الأدبي التكويني للنص يجلب الزهد فيه. على أية حال ذاك أمر من اختصاص الأدباء والنقاد، وما يعنينا هنا أن الأدب الشعبي فيه محاكاة لهذه الظاهرة. ومن ذلك أن الشاعرة وضحى العواد هجرت الشعر وكان المتابعون لها يطربون لشعرها، ومهما حاولوا دفعها للاستمرار في إبداع الشعر إلا أنها تتمسك بموقفها من الشعر حتى جاء إليها ابن أخيها سعد العواد وكان يطرح عليها البيت والبيتين إثارة ودفعاً لها لتبدع ولكنها تصر على اعتزال الشعر، وتطورت محاولاته معها ناشداً الاستمتاع بشعرها حتى زارها ذات يوم وطرح عليها قصيدة صعبة القافية وطلب منها الرد، متخذاً أسلوب التحدي بأنها لن تستطيع مجاراته، فتأجج لديها حافز التحدى واستجابت للرد. فقال: أمس القدمْ في مرقب اهل الشقا نط ووسمت لك قافاً على اط وآطا من لا يعَرْف الغوص يبعدْ عن الشط خَلِّي نغاص لغبّته ونتباطا أصير انا واياك في الشيل والحط كانك على خِبْري بفكرك نشاطا وحسب فهمي لهذه الأبيات أنها مقدمة، وسيتلوها ذكر المشكلة والبحث عن حل. وفي البيت الأول يشير إلى طموحه الذي قاده إلى ورود المجازفة، والتي صاغ معانيها في أبيات وسمها أي وقعها. واط وآطا. حقيقة لم أفهمها ولكنها ربما هي من مأثورات البيئة من الأمثال أو إنها إشارة إلى قافيتي الصدر (أط) والعجز آطا وهو الأقرب. ثم يدعو العمة إلى المشاركة والحوار في المعاني. والغبة هي أعماق الموضوع، ونتباطا بمعنى نتأنى. ويدعوها للأخذ والعطا في النقاش إن لم تزل كما يعهد ذات فكر وبصيرة واستعداد للنقاش والحوار. هذه الصورة الحوارية الأسرية تثير في النفس كوامن أثيرة إليها، هلا استحضرنا تلك الجلسة بين العمة وابن أخيها وهما يتحاوران في ظلال الرحمة؟ ما أحوجنا إلى مثل ذلك. ثم يطرح الشاب معاناته بين القلق الذي يسلب منه النوم لهمومه، وهذه السيدة التي تغرق في النوم لخلوها من الهموم كما يعتقد، لدرجة أن النوم الذي يجافيه يجعل أجفانها كأنما هي مخيطة إلى بعضها فيقول: جفني لياجا الليل بالنوم ما غط وانتِ جفونك كِنْ فيها خياطا وجدي وجود اسير قومٍ مربّط قاموا يسوطونه بصلف السياطا إن صاح، جلاّده بجلده تسلّط وان زاد تعذيبه يزيد العياطا من قام مثلي عن مكانه وفرّط ما عاد بالرحمة لرجليه ماطا اليا حكى ما عاد يمدي، تورّط وليا سكت ما فاد كثر الصباطا وربما كان الشاعر يشكو إلى عمته مشكلة أسرية أو معاناة ذاتية، يطرحها في هذه الجلسة الحميمية التي قد يكشف رد العمة عن الموضوع. وفي البيت الأخير مثل وحكمة: (لسانك حصانك، إن صنته صانك). ولكن السكوت لن يفيد، والصباط كلمة معبرة عن وضع الاستكانة والاستسلام، والرجل المصبط هو الساكت عن الحق (مثلا) أو الذي لا يبدي حركة لدفع الجور، أو إنه الصامت عن المشاركة في الحوار خشية نتائجها. ويواصل شكواه بمثل: ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر يقول الشاعر: من عجز لا يرقى الطويلة يلَقُّط من حوضها من تحت يلقى البطاطا يلقط: هذا شيء يعرفه أهل النخل، والمتلقطة: أناس لا نخل لهم ولكنهم يحسنون جمع ما يساقط من ثمر النخل في أحواضه، والطويلة هي النخلة، ومن لم يستطع صعود النخلة يأكل مما يساقط منها، وذلك مقارنة بين ذوي الهمم العالية والعاجزين عن إدراك العزة. والبطاطا: صوت وقوع الرطب على الأرض. ثم كأنه يفصح عن مشكلته التي يلتمس حلها من العمة: شَرَيْت شيٍ صاحبه ما تْشَرَّطْ ولا عن المقسوم اخذت احتياطا والاي في وسط القُشَرْ سابقي عط هذا الصحيح ولا نويت الغلاطا بهذا التصريح الذي جاء بعد مقدمات وأمثال وتوطئات يختصر الشاعر الموضوع، وكلمة والاى: واذا بي. ليأتي الرد جليا حيث تستدعي ابن أخ آخر ليكتب الرد: يا دخَيِّلٍ قم دَنْ حبرٍ مع الخط واكتب سلامي واحكمه باحتياطا خبر ولدعمَّك وقل: لا تورَّط ما ينفع الرجَّال كُثْر المطاطا واليا وصلته قل عسى الوجه يلْهَط لو عَسَّر الطاروق نرقى اللطاطا بيوتنا مثل المخابيط تنقط من كوكب مثل البحر ما يهاطا كان انت قوماني فانا اقول لك وَطْ ألحقْكْ لو دونك عسام وغطاطا ما شيل فوق الراس لازم يبي يحط يقعد بوسط الدار فوق البلاطا في ردها التزمت تقاليد رسائل الردود الشعرية مستخدمة أساليب النصح المدعومة بالأمثال (ما ينفع الرجال كثر المطاطا) والمطاطا من طأطأة الرأس والقول دون الفعل، ثم المداعبه بقولها (عسى الوجه يلهط). والتخفيف من قلقه (لو عسر الطاروق نرقى اللطاطا) والطاروق: الهاجوس، واللطاطا: المسالك الوعرة الزلقة. وتمتدح أسرتها بالعزة والكرم والمهابة، وكلمة يهاطا: يمازح. وتتساءل عما إذا كان مخترقا القوانين ومغروراً فليتواضع فإن فوق كل قوي من هو أقوى، وهذا تقليد شعري في المحاورات، بدليل «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع» أو ما معناه، وذلك في البيت الأخير. وتبدأ الدفاع عن اتهامها بعدم المبالاة وقلة حمل الهم فتقول: تقول لي: لكن جِفْنك مخيَّطْ ليتك نشدت المطرحة والبساطا لكن بضرب ناظر العين مِخْيَطْ وان جيت اغمض كن فيها حماطا إنها أيضاً تشكو من القلق والأرق يشهد بذلك فراش نومها الذي هجرته، فهي مثله ليست خلية البال «ويل الخلي من الشجي»، وكلمة لكن وكن في البيتين بمعنى لكأن وكأن. وخلي البال مما يعاب بها الانسان الذي لا ينشغل بأمور دنياه كما ينبغي أو فاقد الطموح. وتواصل الشاعرة الرد بغرس الأفكار الايجابية في أعماق ابن أخيها: ما ينفعك زادٍ لياما تَخَرَّطْ يقطعك يا زاد بدون انخراطا وهي هنا تستحضر «الحَلَمَة» حشرة تتطور من القراد تتشبث بالإبل وتمتص دماءها ولكنها لا تخرجها أي لا تخرطها فتظل تخزن الدماء في معدتها حتى تنفجر وتموت. كان انت ترجي لك خماط ليا بط عز الله انك مهمل بانفراطا الناس تجني من ثمرها وتحتط تلقط مع التفاح خوخ وطماطا والخماط الثمرة المتساقطة على الأرض، وتعني هنا التحذير من الوضاعة وتدعو إلى السمو بالنفس. وإذا كان كذلك فهو مهمل ومفرط في عدم اعطاء نفسه حقها. وتضرب له مثلاً بأن الناس تحرص على جني ثمر جهودها وفكرها وتحسب للأيام حسابا، وللظروف ميسراتها، ولا تزهد في البسيط (الطماطم) بعد جنا العزيز كالتفاح والخوخ. وربما كان الفتى يشكو أمراً هينا أرادت العمة صرف نظره عنه والله أعلم، وللأستاذ القدير حمود النافع مؤلف الكتاب الذي استقينا منه هذه الأبيات العذبة عذره، حين لم يشر إلى مناسبة كثير من نصوص كتابه: «شعراء من الزلفي وشاعرات» تجنبا لما قد يثير ذكر المناسبة من شجن. ولذا ترك لنا الخوض لتوقع الأحداث ومناسباتها، حتى انه لم يشرح بعض المفردات التي قد تنفرد بها منطقة عن أخرى فيصعب مع ذلك فهم النص. ومن مشكلات الشعر الشعبي كتابته فقد يخطئ الناقل أو الناسخ كتابة المفردات لضعفه في قواعد الكتابة أو أن الأخطاء الطباعية تجعل المتلقي في حيرة من تناول ما يقرأ ضعفا في قواعد الكتابة أو الطباعة. على أية حال لقد استمتعت بالحوار وتخيلت مجلس المتحاورين وشعرت بصدق الطرح وحصافة الرد وحميمية كل ذلك.