إن حب الوطن والساكنين فيه، ومناصرتهم غريزة لدى الإنسان السوي، يندفع عفوياً للعمل بمقتضاها دون تكلف منه، ولكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس قد يولد توترات بسبب تصادم بعض المصالح والأفكار، ولهذا فإن أبناء الوطن مطالبون بأن يبحثوا عن صيغ مشتركة للتعايش إذا أرادوا تحقيق درجة طيبة من البقاء والنماء والإنجاز الحضاري والتقد تعرضتُ في مقالتي الماضية إلى الأسس الفكرية، والاجتماعية للتربية ودور مؤسساتها في تنشئة طلابها على تقدير وطنهم وحرصهم على الإسهام في نموه.. أما الأساس النفسي وهو الأساس الثالث فهو يتطلب معرفة بطبيعة الإنسان بوجه عام، والمراحل المختلفة لنموه وخاصة مرحلة تتلمذه في مؤسسات التعليم العام (الطفولة، المراهقة، الشاب المبكر)، والمربي الحق لابد أنه أخذ قسطاً وافراً من علم النفس، ويستطيع أن يفسر سلوك الطلاب، ويعرف أسباب تصرفاتهم، وإن بدت هذه التصرفات غريبة في أعين الآخرين أحياناً.. إن معرفة (الهدف) لا تغني عن معرفة (الواقع) الذي منه ننطلق إلى الهدف، وكذلك معرفتنا ب (المجتمع) لا تغني عن معرفتنا ب (الفرد) أو بالطالب والطالبة اللذين نتعامل معهما، وما لم تتوافر لدينا هذه المعرفة كيف نستطيع غرس بذور (المواطنة) الصالحة، ثم نتعهدها بالسقي، والتشذيب، والتهذيب ؟! ** ** ** إن الهدف الرئيس للتعليم العام في وطننا هو الإسهام - مع وسائل التربية ووسائط التأثير الأخرى - في إعداد الإنسان الصالح والمواطن الصالح: فأما الإنسان الصالح فهو الإنسان المؤمن بربه، المطيع له، المؤدي لما كلفه به، المجتنب لما نهاه عنه، المدرك للمعاني الكبيرة لاستخلاف الله للإنسان في الأرض، المستشعر لعظمة رسالة الإسلام، المتشرف بحمل مسؤولية الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة. وأما المواطن الصالح، فهو الذي يعرف حق أولي الأمر عليه، وحق وطنه عليه، ويعتز بالانتماء إليه، ويدرك أن هذا الوطن بقدر ما يسعه يسع إخوانه فيه، وأن لهؤلاء حقوقاً: أقواها حق القرابة وحق أولي الأرحام، ثم هي تتدرج حتى تصل إلى حقوق ضيوف الوطن من المستأمنين والذميين، وبين أعلى درجاتها وأدناها: درجات متعددة للجيران والزملاء والأصدقاء وغيرهم من الناس جميعاً. ويدرك المربي - أياً كان موقعه - أن المواطن الصالح هو من يعرف أن الناس لا يصلحون فوضى، ولذلك فلابد من نظام يجمعهم، ورابط يوحد جهودهم لخدمة الوطن، وأن هذا النظام وتلك الرابطة لها حق الطاعة في المعروف، والنصح عند الحاجة إليه، ويدرك تمام الإدراك أنه مطالب بالإسهام في إنماء وطنه وتطوره، وأنه يجب عليه الذود عنه في وجه عدوه والخارجين على نظامه. وحين نتحدث عن المواطنة فإننا نعني بها الشعور بالانتماء لهذا الوطن الغالي - المملكة العربية السعودية - الذي يحمل فوق رايته الخضراء شعار التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ومحبته، والإخلاص له، والدفاع عنه، والغيرة عليه؛ لا لأنه مسقط الرأس، ومرتع الطفولة والشباب فحسب، بل لأنه يتشرف باحتضان الحرمين الأطهرين والمشاعر المقدسة، مهوىَ أفئدة ما يزيد على مليار مسلم. إن محبة الوطن فطرة قررها القرآن الكريم، يقول تعالى في سورة النساء: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه، إلا قليلٌ منهم..). وانتماء المسلم للإسلام لا يتعارض - كما يتصور بعض الناس - مع انتمائه لوطنه، إذ لا تعارض بين الانتماءين، فهي دوائر متسقة تحتضن الدائرة الكبيرة، الدائرة الأصغر منها، بل إن الأمر يتعدى حدود نفي التناقض إلى دائرة الامتزاج والارتباط. إن غير المنتمي لوطنه هو إنسان ضائع يتخبط مهما كانت ثقافته، أو المحيط الحضاري الذي يعيش فيه، إنه ذلك الإنسان الذي يهرب من واقعه، ويتحاشى الاعتراف بنفسه، لذا فلا يعترف بها غيره، يتهرب من أداء الواجب لأنه فقد ارتباطه بقيم وطنه، وليس فيما قاله أحد الزملاء مبالغة: (إن فقد الإنسان لانتمائه الوطني داخل سياج عقيدته هو أخطر كارثة يمكن أن تقع على أي وطن من الأوطان، لأن ذلك يكون مدعاة للتسيب والتفلّت والتخلف والانحطاط والإحباط، وحري بالمجتمع - أي مجتمع - إن أراد أن ينفض عن نفسه غبار التخلف، وأن يتخلص من أمراضه أن يتبع برنامجاً لدعم الانتماء الوطني..). إن حب الوطن والساكنين فيه، ومناصرتهم غريزة لدى الإنسان السوي، يندفع عفوياً للعمل بمقتضاها دون تكلف منه، ولكن من الثابت أيضاً أن اجتماع الناس قد يولد توترات بسبب تصادم بعض المصالح والأفكار، ولهذا فإن أبناء الوطن مطالبون بأن يبحثوا عن صيغ مشتركة للتعايش إذا أرادوا تحقيق درجة طيبة من البقاء والنماء والإنجاز الحضاري والتقدم. والمواطن الحق يعرف أن (للآخرين) حقوقاً كما عليهم واجبات، وهذه الحقوق ينبغي أن تؤدى إليهم كاملة غير منقوصة، وإن اختلفت طرائقهم أو مشاربهم، ما داموا قد اكتسبوا صفة المواطنة، وليس من حق أحد أن يقوّم سلوكاً معيناً لشخص آخر، هو خطأ في اجتهاده، حتى لو كان مصيباً في حقيقة الأمر، بل عليه واجب النصح والإرشاد بالتي هي أحسن، وأن يكون رفيقاً في أمره كلِّه، فالعنف لا يأتي بخير. المؤسسة التعليمية تدرك أهمية الغرس في نفوس الناشئة حبَّ الوطن: بالقول، والعمل، والقدوة، في الجِدّ واللّعب، وبكل الوسائل المتاحة: بالقصائد الجميلة، والأناشيد العذبة والأحاجي المسلية، والمسابقات الثقافية، والألعاب الممتعة، وبالسلام الوطني، وتحية العلم.. وبكل ما يمكن أن يوصلنا إلى ذلك الهدف النبيل، ليعتز الناشئون بوطنهم، ويبذلوا النفس والنفيس في سبيل حمايته، وحراسته من كيد الكائدين، وعبث العابثين، من الأقربين أو الأبعدين. وحين أركز في حديثي عن واجبات المواطن تجاه وطنه والانتماء إليه فإنني لا أغفل أن للمواطن حقوقاً، وأن الحصول عليها حق ثابت له، وعليه أن ينبه المسؤولين حين يشعر بإغفالهم لهذه الحقوق، على أن المثالية تتحقق في قول ذلك الزعيم (لا تسأل عما على وطنك أن يقدمه لك، بل اسأل عما عليك أن تقدمه أنت لوطنك)، وأما شاعرنا العربي فقد قال: بلادي وإن جارتْ عليَّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليَّ كرامُ وفقنا الله جميعًا إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة ، وأَمِدّنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد..