في أكثر تصريحاته إثارة وحدة ضد الممولين الفكريين للإرهاب في بلاده، أكد رئيس الوزراء البريطاني «توني بلير» بأن حكومته ستحيل أي محرض على أعمال الإرهاب أو مبرر لها إلى المحاكمة بتهمة «الخيانة العظمى» في إشارة واضحة إلى ما وصل إليه التوجس البريطاني من النتائج الكارثية المتوقعة لاستمرار شيوخ الإرهاب اللندنيين في الطنطنة والزعيق المنابري والحضور الإعلامي دعماً لحاضنهم الأيديولوجي «تنظيم القاعدة» الذي دك مندوبوه محطات القطارت اللندنية صبيحة السابع من يوليو الماضي في أول شاهد عملي تعطيه القاعدة لبريطانيا على كارثية الدخول إلى عش الدبابير الأصولية . لا يلام البريطانيون بلا شك على هذه البادرة المنبعثة من الشكوك والتوجس والخيفة مِن مَن هم يقيمون على أراضيها ويستمتعون بحريتها وديمقراطيتها من الأفغان والفلالجة العرب وغير العرب ولكنهم يدينون بالولاء الكامل لقائدهم وموجههم الروحي «تنظيم القاعدة» بزعامة من لا يسميه أو يشير له أولئك الأصوليون اللندنيون إلا باسم «الشيخ المجاهد الكبير أسامة بن لادن»، ولكنهم - أعني البريطانيين - يلامون بلاشك على كل تلك السنين من اللامبالاة وانعدام الشعور تجاه النداءات الكثيرة التي كانت تأتيهم يمنة ويسرة من أقطار كثيرة حول العالم اكتوت بنار الإرهاب الذي ينظرون له، تحذرهم فيها من مغبة ترك الحبل على الغارب لأولئك المهووسين بمظاهر العنف ومناظر الدم وهم يحرضون ويفتون ويتوزعون الأدوار فيما بينهم حتى تحولت «لندن» منبع التسامح والحرية، والمكان الذي لجأ إليه فلاسفة فرنسا وكثيرون غيرهم إبان الاضطهاد الكاثوليكي لهم على يد القساوسة هناك خلال القرن الثامن عشر الميلادي، حيث يأتي فيلسوف الحرية والتسامح الديني «فولتير» على رأس الفلاسفة المهاجرين الباحثين عن نسمات الحرية البريطانية، والذي ما أن وطئت قدماه أرض لندن هرباً من البطش الكاثوليكي في فرنسا إلا ويعجب أيما إعجاب بالحرية والتسامح البريطانيين آنذاك، إلى وضع تسمت فيه - أعني لندن - باسم «لندنستان» عطفاً على ما أصبح يمور فيها وبموج من نشاط إرهابي معادٍ للقيم الإنسانية وقيم الحداثة جمعاء، تلك القيم التي سبقت بريطانيا فيها العديد من بلدان أوروبا، فإذا هي مع المد الأصولي الجديد فيها تتحول إلى وضع يقوم فيه شيوخ الإرهاب بتسيير مؤيديهم من الغوغاء للتبشير بقيم العداء الديني والترويج لكفرية الديمقراطية من أساسها، من خلال توزيع المنشورات التي تؤصل كفر من يؤمن بالديمقراطية ويتعامل بها، وضع أصبح فيه توزيع مثل هذه المنشورات لا يتم في الخفاء أو بين الخاصة منهم، بل إنه يتم بجوار حديقة «الهايدبارك» اللندنية الشهيرة !!!! في تأكيد أصولي صريح ومباشر بأن أمراء الإرهاب هناك إنما يخططون ويعملون لهدم الأسس التي تقوم عليها بريطانيا نفسها ومعها أوروبا والعالم الحر أجمع، وأعني بها قيم التنوير والحداثة التي انتشلت تلك البلدان من نفس الحضيض العنفي الذي يريد أولئك إعادتها إليه. كانت بريطانيا وقبل كارثة السابع من يوليو الماضي تبرر لكل من يطالبها بالتحرك ضد المد الأصولي العنيف على أراضيها بأن ما يتفوه به قادته هناك ويقولونه في وسائل الإعلام وما يقومون به من تأسيس الأحزاب الدينية إنما يتناغم مع مبادئ الحرية البريطانية والمتصالح مع القانون البريطاني، ونسيت بريطانيا أو تناست - لا فرق - بأن أهم شرط يجب توفره فيمن يريد الاستفادة من الحرية والتسامح ويعيش في ظلهما هو أن يؤمن بقيمهما أولاً، إذ أن إيمانه بتلك القيم يعني أنه سيعتقد أن من حق الآخر ممارستها والاستفادة من أجوائها مثله تماماً، مما لا يترك أي مجال للتفكير في العنف أو الحض عليه الناتج أساساً من اعتقاد عدم حق الآخر في الاختلاف مع حوله، وعطفاً على ذلك، فالحرية التي ينشدها أولئك الرهط إنما هي حرية مفصلة على مقاساتهم فقط، حرية يتمتعون بها هم وحدهم وليذهب الآخرون إلى الجحيم إن هم لم ينساقوا إلى حياض الحقيقة التي يحددون هم ماهيتها وكنهها، وهي بالضبط مشكة الأصوليين في بريطانيا مع الحرية، وهي مشكلتهم في كل مكان يتداعون إليه، ذلك أن ثمة أصل عقائدي أساسي يتفقون عليه رغم الاختلافات الفكرية التي ربما تكون بينهم من ناحية الانتماء لدى كل منهم تجاه الطائفة أو النحلة التي ينتمي إليها فكرياً وروحياً، هذا الأصل هو «أصل الإكراه في الدين» فهم يعتقدون جازمين أنهم طلائع تلك العصبة المؤمنة التي بشربها «سيد قطب» عفا الله عنه في كتابيه «معالم في الطريق، وظلال القرآن» لإرغام العالم كله على اتباع نسخة دينية واحدة لا يرون لحائد عنها سبيلاً إلا سبيل القتل في الدنيا وورود حياض جهنم في الآخرة، وبالتالي فتعاملهم مع استحقاقات الليبرالية الغربية هو تعامل المضطر أو هو تعامل الأيديولوجي النفعي الذي يريد أن يطوع مكاسبها لخدمته في الوصول إلى هدفه، وبعدها لن يكتفي فقط في تحريمها، وإنما سيمتد أفقه إلى إحراق وسحل من يؤمن بها أو بمبادئها، تلك المبادئ التي تتناقض أول ما تتناقض مع أصل وكنه ما يدعون إليه من إكراه ديني وجبرية عقائدية. هذه البراغماتية النفعية الأصولية ليست من قبيل الادعاء أو من نسج الخيال، فهي أولاً بادية للعيان من المنهجية التي يؤطرون فيها حراكهم الفكري العملي هناك، كما هو منهجهم في الأماكن الأخرى التي أُبتليت بأدرانهم، ولنا في قصة تلك الجبهة الإسلاموية التي كانت في طريقها نحو فوز كاسح في أول انتخابات حرة تجري في ذلك البلد الإفريقي عظة وذكرى ودليل قاطع على الأسلوب النفعي الذي يتبعه كل من يؤمن بذلك الفكر، إذ صرح أحد أقطابهم حينها وقبل أن تنتهي مراسم الانتخابات، بأن «الديمقراطية كفر وأنهم سيلغون آلياتها فور تسلمهم السلطة» وهو نفس النهج الذي يتعامل به أصوليو بريطانيا عند التعامل مع استحقات الحرية، إذ ما أن تأزف الآزفة وتدق ساعة الخلافة الإسلامية «وفق مقاس حزب التحرير أو المهاجرين أو الغرباء» حتى يبادروا أول ما يبادرون إليه إلى إنهاء كل ما يؤسس لضد مشروعهم الجبري، وأولها مبادئ الليبرالية والديمقراطية، ولأن الأشياء لا تتميز إلا بضدها، فلعل الدرس العملي المرعب الذي أعطته القاعدة لبريطانيا المتمثل في كارثة تفجيرات قطارات لندن ما يؤكد لها ضرورة الضن بحريتها وديمقراطيتها عن من لا يؤمن بها، وعلى رأسهم أصوليوها الذين يسرحون ويمرحون وينمون كالفطر في الجسم العطيب. [email protected]