يمتد تأثير "مهنة الأب" إلى الأبناء، لتشكّل أبعاداً عميقة في وجدانهم، إمّا رفضاً أو قبولاً، بل إن بعضهم تتحول مهنة والده إلى مقياس لجميع أموره، كما أنه بقدر اقتراب متغيرات حياته أو ابتعادها عن تلك المهنة يكون قراره، وتتشكل عواطفه، ويتحدد مستقبله. اتركه يقرر مصيره الوظيفي من دون وصاية حتى يبدع في مجاله ولا يتوقف عند الفشل ويُخطىء كثيراً من الآباء في "توريث" مهنهم إلى أبنائهم، أو إعادة "سيناريو" وظائفهم مع "جيل اليوم"، وهو ما يؤثر عليهم وعلى قدراتهم، فربما كان للابن توجه معين في المستقبل، وهو ما يتطلب وقوف جميع أفراد الأسرة معه، تشجيعاً، ودعماً، وتأهيلاً، وقد تنجح هذه النظرة في مجال التجارة، التي مورست قديماً من قبل الأجداد ونجح فيها الآباء، إلاّ أن ذلك ليس شرطاً في نجاحها بمهن أخرى. وإذا أردنا أن ننشىء جيلاً مُثقفاً ومدركاً ومبدعاً، فعلينا أن ندفع به نحو ما يُريد، لأنه من غير المعقول أن يعمل الأب في "إدارة معينة"، وتوجهات الابن في غير ذلك، ثم الدفع به إلى عكس ما يرغب، فلا نحن كسبناه في تلك الإدارة، ولا نحن ساعدناه في رغبته الأكيدة، وهنا لابد أن يعي الآباء أهمية فتح الخيارات لأبنائهم دون ضغوط، وإذا رغب الابن في تكرار عمل والده فلا مانع من دعمه في توجهه، حيث أن تلك رغبته، وهو من يتحمّل النتيجة، وربما نجح نجاحاً مُذهلاً أكثر من أبيه. سعيد الحربي سعادة متأخرة وقال العميد متقاعد "سعيد الحربي" -مدير الشؤون العامة ومدير الأمن والسلامة بمصلحة السجون سابقاً-: كان لمهنتي أثراً كبيراً في حياة أبنائي وفي علاقتي بهم، فطالما أبعدتني عنهم بسبب طول مدة غيابي عن المنزل، مضيفاً: "لدي ثمانية أبناء، ومع حرصي عليهم ومحبتي لهم إلاّ أنني كنت أعاني قبلهم من عدم استطاعتي قضاء أكبر وقت ممكن معهم، لذا لم ارغب في أن يلتحق أي منهم في السلك العسكري، إلاّ واحد توفاه الله كان يرغب في الالتحاق به، لم أوافقه، بل لم أساعده في اتخاذ الاجراءات حتى لا يعيش مثلما عشت أغلب وقتي بعيداً عن أسرتي"، مبيناً أنه بعد التقاعد أدرك مدى تأثير غيابه على أبنائه حين رأى فرحتهم، خاصةً الصغار منهم بوجودي في حياتهم، وبإمكانية الذهاب معهم إلى الأماكن العامة. د.عبدالرزاق كسار ثقة وحضور وأكد "د.عبدالرزاق كسار" - مدرب في التنمية البشرية ومستشار أسري - أن مهنته كمستشار أسري تغلب على تصرفاته، لكنه على وعي كامل بعدم المباشرة حتى لا يحدث الأثر العكسي، حيث يعتمد على التقليل من النصح والتوجيه، وكذلك تقديم الأمثلة، مضيفاً أنه لم تعد الأخطاء تثير غضبه وانفعاله بقدر كبير، بل بالعكس يحاول قدر الإمكان أن يكون موضوعياً، ويستفيد من كل خطأ لابنه في تقديم فكرة تربوية أو تفسير منطقي في الاتجاه التربوي الصحيح، مبيناً أن قاعدته قائمة على أنه لا ضغائن ولا ندّية ولا حدّية في التربية، ولا معنى لحب مشروط أو قولبة في التعامل. وحول رغبة الأبناء في اتباع مسار والدهم وعمله، ذكر أن ابنه الصغير يريد أن يصبح مدرباً مثله، وابنته "دلال" في ثاني ثانوي تساعده في عمله، وعندما يكون لديه محاضرة فيها قسم نسائي تكون مساعدته هناك، لافتاً إلى أنه بوجه عام فإن تأثير عمله على أبنائه جميعاً أن أصبحوا أكثر ثقة وحضوراً بين أقرنائهم. نحن أصدقاء وقالت "دلال عبدالرزاق كسّار" -ابنة المستشار الأسري-: والدي يوجهنا وينصحنا، وهو يتعمد ألاّ يجعل نصحه مباشراً ويشعرنا أننا كأصدقاء، وهو يتفهم متطلباتنا، مؤكدةً على أنه معه لم تعرف الفجوة بين الأجيال التي يعاني منها معظم الأبناء، وحول إن كانت تُريد ممارسة مهنة والدها مستقبلاً قالت: طبعاً، لكن كخيار ثانٍ بعد الطب. وعاد "د.كسّار" للحديث قائلاً: إن طبيعة عمل الأب لها تأثير كبير على حياته وعلى أبنائه، مضيفاً أنه مع أبنائه يحاول أن يشاركهم النقاش حول الحالات التي تمر عليه بدون ذكر أسماء، احتراماً لخصوصية الناس، حتى يستخلص معهم العبرة والقيمة المستفادة بدون مباشرة أوتوجيه واضح، مبيناً أنه لا بأس من بعض التوجيه في إطار من الأخذ والرد والتفاهم، ذاكراً أنه ذات مرّة تحدث في برنامج تلفزيوني عن المجتمع الذكوري الذي يفرض على البنت أن تتأخر درجة عن أخيها الذكر، حتى وإن كان أصغر منها، مثلما يحدث في تسمية الأب ابنه دون ابنته، أو جلوس البنت في المقعد الخلفي إذا ركب أخوها بجوار والده، وعندما عاد إلى المنزل وكان بصدد الخروج مع ابنه وابنته التي هي أكبر من أخيها، قرّر أن تجلس بجواره تطبيقاً لكلامه، فاستغرق وقتاً في افهامه بطبيعة المجتمع وتأثيره ووجوب مراعاته حتى تتطور نظرته ويتقبل التغيير، مُشدداً على أهمية أن العلاقة مبنية على النقاش والاقناع وليس على الأوامر والنواهي. توريث المهنة منصور البطي وأوضح "منصور البطي" -المشرف على برنامج لقاء الخميس الذي يستضيف الناجحين ليحكوا تجاربهم الناجحة- أن نسبة تأثر أبناء ضيوفه الناجحين بمهن آبائهم لا تتجاوز (30%)، ذلك أن النجاح يرتبط أساساً بأن يشق المرء طريقه بشكل عصامي وبعيداً عن مهنة والده، خاصةً إذا كان لا يحبها وإنما يمارسها رضوخاً لاعتبارات عاطفية أو لحاجة، مضيفاً أنه يعمد معظم الآباء خاصةً في مجتمعنا على توريث مهنتهم لأبنائهم، خاصةً التجارة، حتى لا تضيع الشركات والمؤسسات، لذا تكثر المشروعات العائلية عندنا، هذا الأمر لا بأس به، شرط أن يحب الابن المهنة ويتقبلها عن رغبة وحُب، لكن في الأغلب ليس هذا هو الواقع، مشيراً إلى أن القول الفصل في هذا الأمر هو إدراك الآباء أن العمل جزء من الحياة، وليس الحياة نفسها، لذا فالأهم أن تربي ولدك تربية صحيحة ثم تتركه يختار، ولا تفرض عليه شيئاً أبداً مهما كان اختياره، غريباً أو بعيداً، فهو وحده الذي سيتحمل نتيجته، فلا يصح أن يصبح الابن جزءاً من الأب، أو أن يمارس الأب رمي ظلال عمله على ولده. ناجية الربيع استيعاب الوضع وتحدثت "ناجية الربيع" -ممثلة- قائلةً: رفضت ابنتي مهنتي حينما دخلت في سن المراهقة، ووجدت أنها تتعارض مع مبادئها، حيث بقيت على هذا الحال عامين كاملين، لم يتحدثا خلالهما، وإن فعلت فبحديث جاف، مضيفةً أن ابنتها أرسلت خطاباً من ستة صفحات شرحت فيه مدى رفضها لمهنتها، وكم عانت وقتها وتقطع قلبها حزناً من موقفها تجاهها، ورفضها لها، مبينةً أنه بعد ما كبرت وتزوجت اختلف الوضع قليلاً، وبدأت تستوعب الموقف، وتتقبل عملها ووضعها، خاصةً بعد أن بدأت تفهم الدنيا بشكل أكبر، مؤكدةً على أن علاقتهما حالياً رائعة، لافتةً إلى أن ولدها كان سعيداً بها في طفولته، وسعيداً بأن والدته مشهورة، لكن ذات يوم رأى صورتها عند أحد أصدقائه، حيث قصّها من مجلة، فانزعج كثيراً، وجاءها متضايقاً، فافهمته وأفهمت صديقه أنه مثلما هي أم لهذا الشخص فهي أم صديقه، ذاكرةً أنه انتهت الأزمة، بعد ذلك أصبح ابنها سندها ومساعدها، يعتني بها ويحضر معها المقابلات والاتفاقات. ترك الحرية لجيل اليوم في اختيار توجاهتهم الوظيفية مهم جد إقحام الأبناء في بيئة عمل تُعارض رغباتهم مصيره الفش