ظلت اليمن عبر تاريخها الإسلامي بتعددها المذهبي وتياراتها الدينية المختلفة زاخرة بتعدد هجرها ومراكزها العلمية ومدارسها الدينية والفكرية، وولّادة للعلماء والفقهاء المجتهدين ممن أسهموا في إثراء وتطوير وتجديد العلوم الشرعية والفقهية، وعاشوا في تآلف وتكاتف وحوار بعيداً عن الصراعات والتناقضات المذهبية التناحرية، ولم يخرج الاختلاف والجدل الفقهي العلمي والفكري في يوم من الأيام بين هذه التباينات المذهبية والمدارس الفكرية والفقهية المتعددة عن دائرة التفاعل والتلاقح والاجتهادات الإيجابية المثمرة، وظل اليمنيون عبر مختلف العصور والدويلات المتعاقبة التي حكمتهم (زيدية، شافعية، إسماعيلية، حنفية سنية.. الخ) يمارسون حياتهم الطبيعية، ويؤدون عبادتهم لله سبحانه وتعالى وفق مذاهبهم التي ارتضوها لأنفسهم دون تدخل أو إكراه أو وصاية جماعة دينية أو طغيان منها على أخرى، أو مذهب على آخر، هذه الحالة التاريخية من التعايش والتآخي المذهبي الذي لا يخلو من التنافس والاجتهاد العلمي المشروع استمرت إلى وقتنا الراهن محل حرص جميع العقلاء وإصرارهم على أن تسودها قيم الوسطية والاعتدال والتسامح وتغليب مصالح الدين والأمة، ومصالح الوطن والحفاظ على أمنه واستقراره وسلمه الاجتماعي، وإشاعة قيم الولاء الوطني التي تطغى بوجودها وفعلها على ماعداها من الحسابات السياسية والقناعات المذهبية. واليوم.. وفي ظل الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الأمة العربية والإسلامية من خلال محاولات إثارة الصراعات الطائفية وتغذية نزعات الحقد والكراهية بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة بهدف تمزيقها وإضعاف قدراتها وتشتيت جهود أبنائها، أطلت علينا في اليمن القضية المذهبية بصورتها البشعة محاولة فرض وجودها وتنفيذ مشاريعها التدميرية من خلال جماعات وتيارات متطرفة غاب عن ذهنها وحساباتها مصالح الوطن والأمة ووحدة المجتمع واستقراره، ولا تتردد في الارتماء في أحضان كل من يسعى لإشعال نار الفتنة الطائفية في البيت اليمني طالما وجدوا في ذلك خدمة لمصالحهم. لقد استغل البعض انشغال الدولة في فترة مابعد تحقيق الوحدة اليمنية وما تطلبته من جهود لترتيب الأوضاع العامة في البلاد في ظل الوضع الجديد، وعملوا على تعميق الاختلاف المذهبي، حتى تفاجأ الجميع عام 2004م بانفجار الصراع المذهبي في صعدة الذي جاء بالخسران والدمار على الجميع، ولم يحقق فيه أي طرف نصراً أو نجاحاً، كما لم يكن في هذا الصراع مهزوم أو منتصر، وكان الخاسر الأكبر هو الوطن والشعب الذي أصيبت وحدته الوطنية في مَقْتل بعد أن عاش اليمنيون قروناً طويلة متعايشين، ومتآلفين ومتسامحين، كما تم استغلال الأزمة السياسية التي شهدتها اليمن في الفترة الأخيرة، وما تخللها من صراع حاد على كل المستويات انتهى إلى اتفاق كل الأطراف على إجراء التسوية السياسية للأزمة في ضوء المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمّنة، وجلوس فرقاء الصراع السياسي بما فيهم أطراف الصراع في صعدة على طاولة الحوار ليبحثوا كل قضايا الخلاف بروح المسؤولية الوطنية وصولاً إلى ما يحافظ على الوطن، ويجنبه كل مامن شأنه أن يؤدي إلى تفتته ويمزق وحدته الوطنية، وأيضاً يجنب اليمنيين ويلات الصراع والاقتتال والتناحر، غير أنه وفي ظل الحوار يعمل البعض على إشعال فتيل الصراع المذهبي من جديد في أكثر من منطقة، إلى جانب استغلال منابر المساجد ووسائل الإعلام ومراكز التعليم التابعة لكل طرف التي تحولت إلى أبواق تدعو للفتنة، وتروج لها وتبررها على حساب الدور الحقيقي والواجبات الدينية والوطنية لهذه المنابر ورسالتها في إخماد جذوات الفتن والصراعات المذهبية، وترشيد الخطاب الديني وإشاعة قيم الحوار والتسامح، والتقريب بين المذاهب، ونبذ العنف والتطرف أياً كان شكله أو نوعه. أمام تلك الأوضاع تخلى العلماء عن واجباتهم ورسالتهم الدينية والوطنية، وكان حرياً بهم أن يسخروا علمهم وطاقاتهم وجهودهم لترسيخ الوحدة الوطنية وتعميق روح الإخاء والوئام بين أبناء الوطن الواحد، وإصلاح ذات البين عوضاً عن التمترسات المذهبية، وإصدار الفتاوى التكفيرية، وإطلاق دعوات الجهاد، وحشد الأنصار وتسليح المليشيات، وتصفية الحسابات على الساحة الوطنية، في الوقت الذي يعرفون فيه بأنه لا يستطيع أي طرف مهما امتلك من القوة والجبروت.. ومهما سنحت له الفرص للتوغل في أجهزة الدولة وأخونتها واستغلال إمكانياتها وتطويعها لصالح أجندته الحزبية والسياسية أن يلغي الطرف الآخر، لأن ذلك يعتبر من المستحيلات، فلقد عاش اليمنيون في وئام وتكاتف وتعايش فيما بينهم عبر التاريخ، كما أنه لا يمكن لأي طرف أن يحقق أي نصر أو مجد من خلال تصعيد الخلافات والصراعات والاقتتال الداخلي التي تعبر عن نزعات عدوانية واقصائية متطرفة، وهو ما يفرض على العلماء القيام بواجباتهم الدينية والوطنية في احتواء مثل هكذا خلافات وأزمات مذهبية برؤية وسطية متسامحة، واعية ومستبصره بالأخطار المترتبة عنها، والابتعاد عن المصالح والحسابات السياسية التي من شأنها أن تقود إلى تعميق الشرخ الوطني والعقيدي، وإنتاج المزيد من الإشكالات والتعقيدات، وتوسيع دائرة الصراعات والحروب ومخاطرها المستفحلة على الوطن اليمني وهويته وعقيدته الدينية.