لقد خلق الله تعالى الإنسان واعياً ومميزاً عن باقي الكائنات، واعتمد اختلاف وعي كل فرد حسب نسبة التدرج النسبي بين الفرد والآخر، لأن الوعي مفهوم غامض يتأرجح أحياناً بين مفاهيم أساسية ومكتسبة، تحدد صياغتها المؤثرات الخارجية والبيئة الحاضنة، إلى أن أثبتت عدة دراسات وبحوث كيف تستنبط الوعي الحقيقي من الزائف وكيف تقتطع الخاص من الشامل. ثم تأتي بعد ذلك الإشكالية وسؤال الفلاسفة عندما تصدرت (هل) الصفحات حول الأنا التي تدرك ذاتها، وتستمر منعزلة عن الآخر، وعدم إمكانية فصل الوعي عن العالم الخارجي وغالبا ما تكون حقيقة الوعي بالذات تستوجب الوعي بالآخر؟ فمن جهة ثانية تكشف ذواتنا جملة من التساؤلات لا تلبث أن تأخذ الكثير منا إلى الغموض، مع أننا نفترضه غاية البحث عن الأنا، والوعي بالواقع، وتقودنا طائعين (هل) إلى العديد من أدوات الاستفهام على سبيل المثال (كيف) و(لماذا) لكي نفرق بين الخصوصية والذاتية والعناصر المشتركة بينها، عندما اعتبر "أوليفر ساكس " ( ان الوعي البشري عبارة عن سلاسل من الوحدات المكانية الصغرى الثابتة التي تشبه الصور المكونة للشريط السينمائي، حيث تترابط فيما بينها ويتم إدراكها حسياً من طرف كل واحد منا باعتبارها وحدات متصلة). ولقد انساق الكثير من الفلاسفة حول المفاهيم الأساسية التي رمى إليها "ساكس" في تحديد مفهوم الإدراك عند كل شخص واختلاف درجات الحس والتصور، ولكنه لم يتطرق إلى اللحظات الضجرة التي تتجذر في العمق البشري، وكيف يتذاكى الوعي ليخفيها عن أعين المارة. تلك اللحظات المنبهة هي ما تحتاجه الذات التي اكتمل تاريخ وعيها وانغلقت على نفسها، واحتوتها أحزاب المكتسبات من تعصب وتحزب وطرق مغلقة تنتهي بمنحدر خطر، لقد استحوذت الأنا على مساحة الثقافة المحيطة لتذوب في ثقافة أخرى، تتقلد الظلام بدلا من النور، وتستثمر الدحض قبل التعريف، لكل ما يستدعي الوصف والتمييز. ولكن لو أدرك معظمنا، نتائج هذه التجربة التي بدأت بتساؤل بني على هل وانتهي بكيف، وجدد القوى الهائلة داخله لاستثمر مكتسبات حددت وعي الحياة، التي أخبر بها " جبرا إبراهيم جبرا " قائلا: (إذا كنا يقظين، نصغي إلى الأصوات القريبة والبعيدة ونرى المسافات تحتوينا كما يحتوي الجو ذرات الغبار، ونشعر إلى ذلك بأن الأشجار تستمد عصارتها من دمنا والأزهار تعكس ألوان وجوهنا، لوجدنا أننا في الواقع ملتقى قوى هائلة دقيقة تفعّل في وعينا، وأن وعينا حينما تغزوه الآلام تزيد من نشاطه ومدته). وهذا ما حسبته أنا بدوري عندما وظفت عدة مكتسبات لصالح معرفة الواقع ودلالاته بدلاً من أخذ أغلب الأمور على أنها مؤامرة تحاك ضدي، وكان نابعاً من شعور ذاتي ووجداني يأخذ من المعطيات أفضلها وأقربها للموضوعية، قبل أن تتشكل كمشكله وعي واللاوعي، وما نحن إلا نتاج عدة انفعالات، ترجمتها أقلام الفلاسفة والمثقفين في جمل وعبارات تتجاذبها عدة متناقضات، ورغبات تتأرجح بين النجاح والخوف، وبين السؤال والجواب، والتأمل والتردد، إلى أن تجد نقطة أو مركزاً تقف بصمود في وسطه، رافعين أعلاماً بيضاء، ترفرف مظاهر الطاقة الكامنة عليها، وتشع ضياء منتجاً يحيط بكل الأنحاء المظلمة ليكسبها نوراً وسلاماً، وكذلك نشاطاً واعياً نتيجة مؤثرات خارجية سليمة، يتقبلها اللاشعور دون استئذان، ثم يصورها العقل البشري، لتبقى صوراً مادية نعيد صياغتها كظروف مكتسبة، تشكل إضافة جميلة في حياة كل إنسان.