صورة مجازية ربما، ولكنها تحمل في ثناياها تساؤلا مشروعا وحارقا في آن، لا يلبث أن يتبادر إلى الذهن، فيطفو على السطح، في لحظة مأساوية تتجلى عند رؤيتنا لمشاهد العنف والقتل والدمار التي أصابت عدة عواصم ومدن في العالم. سيناريو مريع بذرته فكر متطرف، وثمرته سلوك دموي لفئة سلكت نهج العنف، فاستلذت برائحة البارود ورؤية الدم الداكن. على أن المقام هنا يدفعنا للفضول وقراءة ما بين الجذور والفروع، ان جاز التعبير، فهل من نهاية لهذه المشاهد المحزنة الأليمة؟، بمعنى هل التطرف كفكر أصبح فعلا ، من القوة بمكان، حيث لا يمكن محوه أو تلاشيه، لاسيما في ظل إفرازاته المتجسدة على هيئة سلوك دموي وعائلته اللغوية من خطف وقتل وذبح ونحر وجز رقاب أبرياء واحتجاز رهائن وترويع آمنين؟!. العلماء المستنيرون هم القادرون على القيام بأدوار المعالجة والمواجهة من اجل تفكيك تلك الطروحات المتشددة وفضح خللها استنادا لقدراتهم العلمية في السياسة الشرعية وفقه الواقع والاستنباط الفقهي إن ثقافة التطرف أو لنقل شجرة التطرف، قد تموت شكلا وهيكلا ولكنها تبقى واقفة وماثلة للعيان مضمونا وجوهرا ما لم نستطع اقتلاع جذورها، بدليل انه رغم مجابهته بكافة الوسائل مازال قائما، ولعل قابليته للانتشار ربما كانت سببا مفصليا في نموه وبقائه. على أن رمزية الوقوف هنا ليست لشموخها وسموها وعلو كعبها، وإنما لتجذرها وتغلغلها في القاع وصعوبة اقتلاعها وهنا تكمن قيمة التحدي، كونها تتوالد وتتلاقح وتنتقل من عقل لآخر ومن فئة لأخرى ومن جيل لجيل، كون السلوك في تصوري ما هو إلا تصرفا ماديا له مرجعية وأرضية فكرية ينطلق منها. هذا الفكر هو الذي يسكب طبيعة وأبعاد هذا السلوك، فنراه مجسداً على الأرض سواء كان عنيفاً أم إنسانياً استناداً إلى مضامين ذلك الفكر أو تلك الأرضية. فثقافة التطرف في ُبنيتها ترتكز على أسباب سيكيولوجية وسوسيولوجية وراء ظهورها، وقد ساهمت عدة عوامل في ترسيخها ونجاحها ، لا سيما أن البيئة الحاضنة لها عامل مساعد لها في البقاء والتأثير مما يجعل عملية اجتثاث جذورها مهمة صعبة ولا أقول مستحيلة . على أن المتابع للأحداث يعلم بأن أيديولوجية القاعدة اخترقت نسيج المجتمع باستخدام وسيلة (توظيف النص الديني) ، فاستغلت ذلك المناخ الديني وتلك البيئة المحافظة لزرع أفكارها الراديكالية في مجتمع يحمل الكثير من التقديس لكل ما هو ديني، وهنا تكمن المعضلة فتجد التعاطف من بعض الفئات، وربما التردد والصمت من البعض الآخر، في مقاومة تلك العقليات المتلبسة بشعار الدين، والمتخيلة لصورة ماضوية مسرفة في الانتقائية تريد فرضها على المجتمع والدولة. ولعل من يفكك خطابها، يجد انه يرتكز على مفاهيم الإدانة والإقصاء والإلغاء، والتوجس من الجديد، بدعوى المحافظة على القديم بأساليب تنظيرية جامدة، تفتقد النقد العقلاني، ورغم ان هذه الفئة المخترقة، لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا أنها تبقى جزءاً من تركيبته الاجتماعية، ولذلك فتعاطفها مع تلك الأيديولوجية يبقى له تأثير على تماسك النسيج المجتمعي، وان ظل محدوداً ولكن خطورته تكمن في استمرارية نموه وتشعبه ما لم يواجه بحلول أمنية وعلمية لإيقاف تسارع وتيرته، وبالتالي تجفيف منابعه الفكرية والمادية، واقتلاعه من جذوره. فالمسألة إن ارتهنا للصراحة، لم تعد طرح شعارات دينية، بل إن لها أهدافا سياسية لم تعد تنطلي على احد. كما أن خطورة الايديولوجيا (الدينية الراديكالية) حين تحليلها معرفياً، تكمن في كونها تنطلق من أرضية (رفض الآخر) و(سلوك الرفض) مستندة إلى ذات انغلاقية، لا تحلم إلا بصورة مختزلة في ذهنها، ولا يمكن لها التكيّف أو التعايش مع ما حولها، بل تنزع إلى التقوقع والهروب إلى الأمام، رغم أن واقع الحال من معطيات ومتغيرات ترى ضرورة التفاعل والاندماج والتعايش في عالم بات إلى التلاقح هو أقرب. غير أن سقوط معتنق الفكر لا يعني بالضرورة تلاشي الفكر ذاته، فالفكر الاشتراكي والقاعدي ان جاز التعبير ما زالا في الساحة رغم سقوط مكوناتهما الأساسية، وهو ما يؤكد مقولة كارل بوبر في كتابه (بؤس الايديولوجيا) من أن الايديولوجيا لم تنته ولن تنتهي، وقد تكون في مأزق ولكنها في تقديري ستبقى، ما لم نواجهها بأسلوب نقدي معرفي، وليس بإنتاج مقولات وآراء لا تبتكر مناهج وبطرق دفاعية وتبريرية، واجترار مقولات مستهلكة وعقيمة. ولذا فالحقيقة الماثلة للعيان ترى أن الفكر لا يواجه إلا بفكر مماثل، فسلاح النقد هو الأداة التي تفند آراء هذا الطرف أو ذاك وتكشف عن الاعيبه وانتقائيته، ولعل العلماء المستنيرين هم القادرون على القيام بأدوار المعالجة والمواجهة من اجل تفكيك تلك الطروحات المتشددة وفضح خللها استنادا لقدراتهم العلمية في السياسة الشرعية وفقه الواقع والاستنباط الفقهي . وهذا لا يعني أن يتخلى البقية عن أداء دورهم ،بل على الجميع، أو هكذا يفترض أن يكون ، أن يتحول من مسألة الدفاع عن الذات وردات الفعل إلى فعل يمارس النقد، أي نقد لأدوات وآليات ومضامين هذا الفكر من حيث (اللغة والتوجه والأداة والمفهوم والرؤية والمنهج)،ولعل الشفافية هنا تلعب دورا رئيسيا بتحليل الظاهرة اجتماعياً ومعرفياً، وليس بانتقادها لحظيا أو معالجتها وقتياً. فالمقام هنا كان بهدف إبراز ظاهرة باتت تهدد مستقبلنا ووحدتنا الوطنية ،ولذا طالما انه بلورنا تلك المعالجة، فإنه سيكون بمثابة انتصار وطني، قبل أن يكون إنجازاً فكرياً أجهز على فكر مريض بكشفه وتعريته لنا ولأجيالنا المقبلة، لنخرج إلى العالم ونحن أكثر منعة وثباتا وثقة، والزمن كفيل بالإجابة على أي حال.!!